وجاء في مأثور الأقوال: الدنيا أربعة أشياء: الفرح والراحة والحلاوة واللذة، الأول للقلب والثاني للبدن والثالث للفم والرابع للعين، ولابد من نسيان هم الأمس واغتمام اليوم وخوف الغد لأن حلاوة الدنيا معقودة في تجاهلها، إنما المعول على قوة البأس وترك الابتئاس.
أحوال العشاق والمحبين أكثر من أن تحصر، وأبعد من أن تنالها يد لاقط أو عين متتبع، وكلها معروفة معلومة عند المخلوقين في الحاضر والغابر، وحينما يتبصر أحدنا في جمال زرقة السماء أو أريحية لون الأرض وتوافقه مع كل الألوان عليها، أو ينتعش لهواء عليل يستشنقه أو منظر نهر جار بين خضرة وحدائق غناء، فكلها أشياء لا تختلف فيها أحاسيس المشاعر عن تصور لذة الحب في قلوب المحبين ونظرالعاشقين.
لذة العشق لها مكان شاسع في قلوب أهلها، وشكواهم الفراق ومناجاتهم الخيال إنما هي سر دفين لايستطيعون وصفه بالكلام إنما هو معروف في مشاعرهم الخفية التي يفهم كل منهما الآخر عند التلاق،ولننظر إلى قول الشاعر:
إن الله نجاني من الحب لم أعد ** إليه ولم أقبل مقالة عاذل
ومن لي بمنجاة من الحب بعدما ** رمتني دواهي الحب بين الحبائل
هذا إعلان صريح بعدم القدرة على التخلص من شيء يعلم ابتداء عدم قدرته على احتماله، لكنه لا يخلو من إيحاء عن جمال خفي من هذا الشيء المحذور، وهذا شاعر آخر يبدو أنه تخلص، لكنه يريد الرجوع إلى ماهو عليه، ربما لتفضيله ألم الواقع الذي كان يعيشه على أمر مجهول لايدري أين ساحله، يقول:
لعل الليالي بإحسانها **كما فرقت بيننا تجمع
وههنا اعتدال مقبول في قول ذي الرمة:
فإن لم يكن إلا التعلل ساعة ** قليلا فإني نافع لي قليلها
وقليل ذي الرمة معقول إذا تم قياسه مع تمن من نوع آخر في قول الشاعر:
إذا لم يكن وصل إليك يضمني ** فيا حبذا يا هند لو ضمنا قبر
وهذا آخر يقول:
وأمرّ مايلقى الحبيب من الهوى ** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول
وهذا تصريح بعدم القدرة مع ضرب مثال مناسب:
ولو جلدي في كل قلب ومهجة **لما أثرت فيها العيون المرائض
أبت عن دنيّ الوصف ضربة لازبٍ ** كما أبت الفعل َ الحروفُ الخوافض
وهذا استشهاد عاشق لغوي في بيت آخر:
أُدرجتُ في أثناء نسيانكم ... حتى كأني أَلِفُ الوصل
ومهما يكن من أمر، فإن الحب والعشق، لذة وعاطفة جياشة، وحياة جميلة تتسم باللطافة وتطبيق فعلي لتطويع الإحساس والمشاعر لطاقات الجسد والعقل وتفوقها عليه.
قال عاشق لمعشوقته: أيما أحب إليك، الهجر أم الوصل؟
قالت: الهجر لا أحبه.
وتقول إحداهن لعاشقها الأصلع: والله لا أحسد إلا شعرك الذي ذهب واستراح منك.
قال بعض الفضلاء في تعريف الحب: هو مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه وأعيا العليل داؤه وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه.
قال ابن حزم رحمه الله في تعريف ماهية الحب:
وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.
وقال الجاحظ: العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن الشرف اسم لما جاوز الجود.
وقال أعرابي: العشق خفي أن يرى، وجل أن يخفى، فهو كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.
قال ابن حزم: لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية، لابد من هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشباه زادت المجانسة وتأكدت المودة، فانظر هذا تره عيانا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منه اختلف.
قال إبراهيم بن العباس الصولي: ما سمعت كلاما محدثا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز من قول العباس بن الأحنف:
تَعَالىْ نُجَدِّدْ دَاِرسَ العَهْدِ بيننا ... كِلانا على طُولِ الجَفَاءِ مَلومُ
أناسِيةُ ما كان بيني وبينها ... وقاطعةٌ حَبْلَ الصَّفاءِ ظَلومُ
يقول أحدهم معبرا عن إيمانه في الإيحاء عبر الإشارة:
فسلمتُ إيماءً وودعتُ خيفةً ** فكان جوابي كسرَ عين ٍ وحاجبِ
وهذا آخر له تعبير بطريقة أخرى:
إشارات العيون مترجمات ** لما تطوي القلوبُ عن القلوبِ
¥