تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولذلك صار الإرث في مجتمعات، كمصر، والريف منها خصوصا، سببا في قطيعة كثير من الأرحام، لا سيما النساء اللاتي يظلمن في إرث العقار خاصة لئلا تذهب الأرض إلى زوجها الغريب إذ ليس من العصبات أو حتى من الأرحام وكأنه هو الوارث لا هي!، فغالبا ما يحدث التعدي والجور فرعا عن ذلك، ولا يوجد آنذاك من أهل العدل المدققين من يحسم مادة النزاع قبل أن يستفحل أثرها، وإن كان أهل الفضل كثيرا، ولكنه موضع يفتقر إلى ميزان العدل الإلهي الدقيق لتحفظ تلك الأرحام من الانقطاع الذي يقع لا محالة إن حدث الجور والتعدي في هذا الأمر، إذ النفوس قد جبلت على الشح فلا ترضى إلا إذا استخلصت حقها بل ربما طمعت في حقوق غيرها، وهذا أمر وجدته أثره ووجده كثير من أصدقائي حتى لكأنه قد صار عرفا مطردا وإن كان خلاف الشرع المنزل، فأصبحت قطيعة الرحم كما يتندر أحد الفضلاء عندنا فرعا عن أمرين: إما الإرث، وإما الزواج فالأخ يريد زواج ابن أخيه من ابنته، أو العكس فإن لم يقدر الله، عز وجل، ذلك، أو قدر وفشلت الخطبة أو الزيجة انقلب الرحم عداوة والسلم والمودة حربا ولا يوجد غالبا من أهل العدل من يفصل النزاع في تلك المسائل الشائكة. ولذلك استحب بعض أهل العلم عدم زواج الأقارب من هذا الوجه، لأنه قد يصير لا سيما في الأعصار الأخيرة التي رقت فيها الديانة سببا في قطيعة الأرحام.

ولكل مقام مقال: فللعدل أهله الممسكون بميزانه، وللفضل أهله، وكل على خير، وإنما أراد الشيخ، رحمه الله، الفصل بين الاثنين لئلا تتداخل الحدود فتخفى، فيستعمل الفضل حيث لا ينفع إلا العدل أو العكس.

والعدل شريعة الأنبياء عليهم السلام فهم أبرع من استعمل موازين العدل المنزل في قياس الأفعال وإنزال الأعيان منازلهم، فمن استقرأ سيرة النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم حنكته في وزن الرجال فأنزل كلا منزلته، واستخرج من كل موهبته، فكان منهم الخليفة المتولي أمر الناس بعده بحنكة وبراعة هي فرع عن حنكة صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن كل خير في الأصحاب، رضي الله عنهم، وإن عظم، فإنما هو شعبة من الأصل الجامع للخيرات العلمية والعملية، فكل من كان له لسان صدق في هذه الأمة فإنما يرجع بالفضل إلى الرب جل وعلا، أن بعث فينا خاتم رسله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليزكي القلوب والجوارح بأجناس العلوم النافعة والأعمال الصالحة، وكان منهم وزير الصدق مع كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤيدا بالوحي، وكان منهم المقاتل الصنديد، وكان منهم السخي الباذل، وكان منهم الفصيح الشاعر، وكان منهم الغني والفقير، القوي والضعيف، العزب وذو الأهل، الشاب والكهل ...... إلخ فأحسن صلى الله عليه وعلى آله وسلم توظيف تلك الطاقات بما أوتيه من ميزان العدل والحكمة، فوضع كلا على ثغر يناسب طاقاته، فلم يكلف الضعيف حربا، ولا الفقير بذلا، وإنما استعملهم حيث صح استعمالهم، ولكل مقام مقال. وهو أمر نفتقده في زماننا فكثير من الطاقات معطلة وبعضها مستنفذ في غير موضعه، والعشوائية والفردية غالبة على الجماعة المسلمة فهي منقسمة سياسيا لدرجة العزلة في أحيان كثيرة فلكل بقعة أمير وعلم وجيش ورسوم رياسة على وزان رسوم طوائف الجزيرة الأندلسية المفقودة، وهي مع ذلك لا تحسن التواصل حتى داخل المصر الواحد، بل ربما داخل الحي أو البيت الواحد، فتدفن كثير من المواهب في ركام المدرسة والجامعة والوظيفة فكلها مؤسسات في الغالب تقتل المواهب صبرا، فلا ينجو إلا آحاد، وذلك مئنة من غياب العدل الذي يعطي كل ذي قدر قدره فلا يسوي بين العقول في التكليف، فليس تكليف الذكي كالبليد، ولا يقدم من حقه التأخير، أو يؤخر من حقه التقديم، وقد رأى من تعلم منا في الجامعات لا سيما في الأمصار التي استشرى فيها داء الشفاعات الباطلة، رأى زملاء كانوا أحق بتولي منصب التدريس لجودة أفهامهم وعلو هممهم في الطلب فحجبوا وعزلوا عن المنصب ليتولاه من ليس له بأهل، تأويلَ قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير