تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا سألت عن سر تفوق أولئك الأفاضل المقدمين من صدر هذه الأمة فهو: العدل الذي يفتقده النوع الإنساني اليوم في كل شأنه العام والخاص.

وفي دولة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا بطالة فنسبتها قد وصلت إلى الصفر إذ قد وجد لكلٍِ وظيفةَ تلائم طاقاته.

وللعدل صور دقيقة تظهر فيها حنكة الأنبياء عليهم السلام في استعمال ميزانه فأبرزها، لمكان سنة التدافع الكونية التي قضى الرب، جل وعلا، بنفاذها في كل عصر ومصر إظهارا لآثار حكمته وآثار قدرته بتأييد أهل الحق بالبراهين القاطعة، والسيوف الباترة، فلهم في أزمنة الظهور: السيفان: سيف الحجة المعقول، وسيف القتال المحسوس، ولهم في أزمنة الضعف كزماننا: سيف الحجة فلا يملكون غيره في أغلب الأمصار ليردوا به عدوان أهل الملل والنحل على ملة الإسلام ونحلة السنة، أبرزها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فميزانه من الدقة بمكان، فالوازن به على حد الإفراط أو التفريط إلا من عصم الرب الحكيم، فمن مفرط معطل لتلك الشعيرة حتى قلت غيرته على رسوم الديانة فدخل في باب واسع من أبواب الدياثة، ومن مفرط قد غلا في الأمر والنهي بلا سلطان شرعي أو كوني، فليس له ولاية شرعية وليس له سلطان بتفويض من متغلب ولو برسم القهر، فهو مكلف نفسه ومن حوله ما لا يطيقون، مستعمل لأخلاق الجلال في مواضع الجمال، فلو كان سلطانا أو نائبا عنه مفوضا منه لجاز له أن ينكر باليد، ولكن ليس له من الأمر شيء فلا يسعه إلا أن ينكر باليد على من تحت سلطانه، وباللسان زاجرا أو ناصحا فلكل مقام مقال، كما تقدم، وبالقلب فتلك المرتبة التي لا تسقط عن أي مكلف، ولو عجزت يده وأخرس لسانه.

وأكمل الأمم في هذا الباب هي أمة الإسلام، فإن عالمية رسالتها قد اقتضت تكليفها بما لم تكلف به الأمم الأخرى ذات الرسالات المحلية، فكان وجوب الجهاد على هذه الأمة باليد واللسان والقلب آكد من وجوبه على بقية الأمم.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

"قال أبو هريرة رضي الله عنه: "كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة" فبين الله سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق.

وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك بل منهم من لم يجاهدوا.

والذين جاهدوا كبني إسرائيل فغاية جهادهم كان لدفع عدوهم من أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهَدين إلى الهدى والخير ولا لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) إلى قوله: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون).

وكما قال تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا). فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا كانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ولهذا لم تحل الغنائم لهم ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين". اهـ

"الاستقامة"، ص448، 449.

فإن الخراج بالضمان، أو: الغنم بالغرم، كما يقول الفقهاء، فلما كان تكليف هذه الأمة بالجهاد آكد ومشقته في حقها أعظم، حل لهم من ثمرته العاجلة ما لم يحل لمن سبقهم مع ما ادخر لهم من الثواب في دار المقامة، إذ قد أمرت هذه الأمة برسم الجهاد العام، بل قد أمرت بالطلب حال القوة والتمكن، كما وقع من صدر الأمة، رضي الله عنهم، إذ قد حملوا الرسالة إلى بقية الأمم مؤيدة بحجة التنزيل وسيف إزالة الطغيان الذي يحول أصحابه بين الناس والإيمان، فأزالوا عروش الأكاسرة والقياصرة، وتركوا الأمم تختار إذ كل عن اختياره مسئول فـ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير