تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا نسبة إحداث كسائر المقالات المحدثة التي نسبت إلى محدثيها نسبة الإنشاء فليست قديمة كالحق الذي بعث به الرسل عليهم السلام، وإلى يوم الناس هذا لا يزال عموم المسلمين على طريقة أهل السنة، فهم السواد الأعظم بمقتضى الفطرة الأولى، فلا يعرفون طرائق الجدل الفلسفي، ولا يقدحون في عدالة الصدر الأول بل الأصل فيهم تعظيم الصحب والآل، رضي الله عنهم، جميعا، وإنما يعرض لمن يعرض منهم الفساد بما يتلقاه من الآباء من مقالات تحرفه عن الفطرة الأولى، وذلك من جنس ما يعرض لأبناء اليهود والنصارى وسائر أبناء الملل التي خرجت عن الفطرة الأولى، فيولد المولود مفطورا على التوحيد، إلى أن يبدل الآباء فطرته بالتعميد ونحوه، فهو معنى رمزي لتبديل الفطرة الأولى، كما ذكر ذلك بعض من خالط قساوسة النصارى، وكأنه يقر بحدوث ديانته فليست حقا قديما، بل هي من الباطل المحدث الذي يلزم لاعتناقه شعائر وطقوس معينة تنقل صاحبها عن الأصل الفطري الذي لا يجد الإنسان عناء في انتحاله إلى الفرع المخالف للفطرة، والشاهد أن الاختلاف وإن كان في المسلمين عظيما لا سيما في الأعصار المختلفة بعد تشعب المقالات، فهي في أصلها ترجع إلى مقالات: الخوارج والطاعنين في أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقدرية والجهمية، فاستوفت بذلك سائر مسائل الديانة: من إلهيات خالف فيها من تكلم بمنطق اليونان في باب الأسماء والصفات، ونبوات خالف فيها من قدح في عدالة الجيل الأول من الأصحاب، رضي الله عنهم، فالقدح فيهم قدح في صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم لزوما، وسمعيات أولها من أولها من غلاة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية فضلا عن المعتزلة الذين أنكروا جملة من الغيبيات كعذاب القبر والصراط والميزان ......... إلخ، وإن أثبتها بعضهم. وإن كان الاختلاف في المسلمين عظيما على ما تقدم إلا أنه في غيرهم أعظم، فخلاف اليهود والنصارى أعظم من خلافهم، والمتتبع لتاريخ الصراع الديني المذهبي في أمة النصارى من لدن حمل قسطنطين شعوب الإمبراطورية على مقالة الملكانيين بحد السيف إلى انشقاق الأرثوذكس والبروتستانت والإنجيليين في الأعصار المتأخرة ...... إلخ من الطوائف التي يكفر بعضها بعضا، ويستحل بعضها دماء وأعراض بعض كما جرى بين الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك في صراع البلقان، المتتبع لهذا الصراع يجد أن ضراوته أشد من ضراوة الصراعات المذهبية في دين الإسلام، فأهل القبلة، وإن عظم تفرقهم، إلا أنهم في الجملة يجتمعون ولو على الشهادتين، على التفصيل في مفهومهما كل عند كل طائفة، فالعبرة بالمعاني لا بالمباني، بخلاف طوائف النصارى، فإنها اختلفت في المبنى الدال على الرب، جل وعلا، هل هو الأقنوم الأول الذي تولد منه الأقنوم الثاني: أقنوم الكلمة أو العلم: تولد الابن من الأب، أو هو أقنوم واحد ذو طبيعتين: لاهوتية وناسوتية، فيكون المسيح عليه السلام هو الصورة الأرضية لرب البرية جل وعلا؟!، وذلك يستلزم الخلاف في المعنى بداهة، فضلا عما تقدم من انشقاق الأمم قبلنا انشقاقات عديدة صار لكل شق منها أتباعه فاضمحلت الجماعة، وانتفى وصف السواد الأعظم عن أي منها، فلا كتلة عظمى تمثل صلب الديانة، وإنما جماعات متناحرة بتناحر المقالات التي بلغ الاختلاف فيها أصل الملة فلا يمكن اعتبارها من قبيل الخلاف السائغ! وإن اجتمعت تلك الطوائف تحت اسم كلي مشترك هو: "النصرانية"، فهو في حقها أشبه بالمشترك اللفظي الذي لا يدل على أي قدر معنوي مشترك، ولو أجري مجرى الاشتراك المعنوي فإنما اشتركت الطوائف كلها في معنى كلي باطل هو: الغلو في المسيح عليه السلام، وما وقع للنصارى من الخلاف الذي أذكى نار العداوة بين طوائفهم إنما كان جزاء وفاقا على تبديل أحكام الرسالة، فذلك تأويل قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، وذلك من شؤم تبديل الوحي المنزل، وهو أمر عام في أتباع كل شريعة سماوية، فأتباع الشرائع السماوية السابقة لشريعة الإسلام، قبل النسخ بشريعة تالية أو التحريف بيد آثمة، كانوا مؤتلفين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير