تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلوبا وأبدانا، لاتحاد العقد الإيماني، فلما طرأ الاختلاف بإحداث من أحدث في مقالتهم: تغيرت القلوب فتنافر ودها بانقلابه بغضاء، فتبع ذلك تنافر الأبدان لزوما فإن اختلاف الأبدان بالقتال والعدوان إنما هو فرع عن اختلاف القلوب في مسائل الاعتقاد والإيمان، فهي أولى ما رفعت له رايات الولاء والبراء، والاختلاف فيها أعظم اختلاف به تنشق الجماعات بل تقطع الأرحام انتصارا لما يعتقده صاحب المقالة من صحة مقالته المستلزمة للنجاة وبطلان مقالة مخالفه المستلزم للهلاك، والنفوس قد جبلت على التعصب والتحزب فإن لم تتعصب لمقالة حق تعصبت لمقالة باطل، فأشبعت نهمتها منها، فلا بد لها من غذاء تقتات عليه نافعا كان أو ضارا، والشاهد أن الاختلاف لا بد كائن بين الملل، بل والنحل في الملة الواحدة، بل بين أتباع النحلة الواحدة، بل ربما وصل الأمر إلى حد الاختلاف بين أصحاب المناهج الأخص كما هو واقع الآن بين تيارات من المنتسبين إلى مذهب السلف، رضي الله عنهم، فمع اجتماعهم على تعظيم قدر السلف، رضي الله عنهم، وتقديم نقلهم الخبري وفهمهم العقلي، وهذا أمر انفردوا به عن بقية مذاهب الإسلاميين من المتكلمين والمعتزلة فضلا عمن يقدح في السلف صراحة، مع هذا الاجتماع المحمود إلا أن الخلاف، لا سيما المنهجي، قد وقع بينهم، وتخطى حد الاعتدال في أحيان كثيرة، لا سيما من أتباع المناهج من المقلدين المعظمين للأفاضل على حد الغلو الذي لا يسلم منه إلا آحاد المسددين ممن يزنون الأمور بميزان الشرع لا العاطفة، فالأمر مطرد في كل الملل السابقة وفي الملة الخاتمة، إذ لا بد من وقوع الخلاف فذلك قدر كوني نافذ تظهر به آثار حكمة الرب، جل وعلا، في سنة التدافع بين الجماعات والأفراد، فلو كان كلهم على طريقة ومقالة واحدة لتعطلت حكمة الرب، جل وعلا، فإن الحكمة إنما تظهر آثارها بوقوع النزاع، وتحرر محله، وتدافع حججه، فالدعاء برفعه على حد الاستئصال، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، نوع تعد في الدعاء، إذ هو طلب ما لا يكون في دار الابتلاء أبدا إذ لازمه رفع الابتلاء بفتنة: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، فابتلي المؤمن بالكافر، والبر بالفاجر، والغني بالفقير ........... إلخ لتظهر آثار الحكمة الإلهية في تدافع تلك المتضادات الكونية وفق الطريقة الشرعية التي أنزلها الرب، جل وعلا، على قلوب أنبيائه، عليهم السلام، فالنبوات هي الحكم في مثل تلك المضايق، على حد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، ولا يعني ذلك عدم السعي في رفع الخلاف فذلك تعطيل للسنة الشرعية الآمرة برفع الخلاف برده إلى أصوله الشرعية، كما تقدم في الآية السابقة، بل يؤمن المكلف بالقدر الكوني فالخلاف واقع لا محالة، ويعمل بالشرع على رفعه بمجاهدة المخالف بالقلب واللسان واليد على رسم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".

قال القرطبي رحمه الله:

"وهذا وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله تعالى.

فحض على كمال الأوصاف، وقدم الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز. فرتب الأمر كما هو نفسه". اهـ

ويقال على الجانب الآخر بأن: الاجتماع إن كان واقعا في الأمم الأخرى فهو في هذه الأمة أعظم، فسوادها الأعظم، كما تقدم، على طريقة أهل السنة التي ترجع أصولها إلى مقالة النبوة الأولى، فلا يجد عموم المسلمين عناء فكريا في انتحالها كذلك الذي يجده أتباع الملل الأخرى التي تقهر عقل منتحليها برسم: "الإيمان فوق المناقشة" فتأمرهم بالتصديق بالمحالات العقلية فذلك طريق السعادة الأبدية!، فيقع من ذلك من التنافر بين العقل والدين: ما كان، كما تقدم في مواضع سابقة، سببا في ظهور التيارات العلمانية والإلحادية التي اكتسحت أوروبا النصرانية في القرنين الماضيين، إذ فرض الدين المحرف على العقل خوض معركة الكنيسة الرجعية والنهضة الصناعية التقدمية، فانتصرت آلة البخار على ما

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير