و هذا هو حالنا دائما نحن البشر مع الجميع! و ذات يوم سألني شاب هذه الأسئلة الحائرة .. فتذكرت فجأة قصة قديمة رواها أحد الأدباء عن مجموعة من " القنافد " اشتد بها البرد ذات ليلة من ليالي الشتاء فاقتربت من بعضها و تلاصقت طلبا للدفء والأمان، فآذتها أشواكها فأسرعت تبتعد عن بعضها ففقدت الدفء و الأمان فعادت للاقتراب من جديد بشكل يحقق لها الدفء و يحميها في نفس الوقت من أشواك الآخرين، و يحمي الآخرين من أشواكها .. فاقتربت و لم تقترب .. و ابتعدت و لم تبتعد .. و هكذا حلت مشكلتها، و هكذا أيضا ينبغي أن يفعل الإنسان!
فالاقتراب الشديد من الجميع قد يغرس أشواكهم فينا و يغرس أشواكنا فيهم .. و البعد عنهم أيضا يفقدنا الأمان و الدفء ويجعل الحياة قاسية و مريرة لهذا فنحن في حاجة دائما إلى أن نتلامس مع الآخرين .. و لكن بغير اقتراب شديد يفتح أبواب المتاعب، و يحجب الرؤية و يشوِّش السمع. لأن القرب الشديد يضيّق مدى الرؤية في حين أن الاقتراب عن بعد أو الابتعاد عن قرب يجعل الرؤية أوضح و السمع أصغى .. فأنت إذا اقتربت جدا من الميكروفون و تحدثت فيه خرج صوتك مشوشا غير مفهوم .. و إذا أبعدته قليلا عن فمك خرج صوتك واضحا .. أما إذا ابعدته كثيرا .. جاء صوتك كالفحيح لا يميزه أحد، فالإنسان في حاجة إلى رفقاء يبثهم شجونه و يهتم بأمرهم و يهتمون بأمره، لكنه يحتاج أيضا أن تكون له ذاته الخاصة التي لا يقترب منها إلا الأصفياء وحدهم .. و الإنسان أيضا يحتاج أن يحسن الظن بالآخرين لكي تستقيم الحياة لكنه يحتاج أيضا أن يكون حريصا بعض الشيء في علاقته بهم، فلا يمنح ثقته الكاملة إلا لمن عرفه جيدا و امتحن إخلاصه و صداقته و قيمه الأخلاقية، لأن الإسراف في الشك خطأ يكشف عن سوء طوية الإنسان وفقا لقول الشاعر: " إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه"، كما أن الإسراف أيضا في الثقة بالجميع و عن غير خبرة بهم يورد الإنسان موارد التهلكة و دليل على الغفلة وفقا للحكمة العربية القديمة " الشك من حسن الفطن " .. و من هنا جاءت فكرة " الوسط الذهبي " عند فلاسفة اليونان أي فكرة الاعتدال في كل شئ .. في القرب من الناس و في الابتعاد عنهم، في الثقة فيهم و في سوء الظن بهم و أيضا في كل أمور الحياة، و هي نفس الفكرة التي تعبر عنها الحكمة المعروفة " خير الأمور الوسط "، فالعقلاء من البشر هم الذين يحيون الحياة باعتدال في كل شئ .. و شذاذها هم من يقفون دائما على حافة الدائرة من كل أمر و من كل شئ .. و من كل قضية.
و أنت قد تشكو مثلا ممن تأتمنه على أسرارك .. فيبوح لسانه بها و لو بعد حين لكنك تعفي نفسك من اللوم لأنك كنت أول من أفشى سرك هذا حين بحت به لمن ائتمنته عليه! و السر إذا عرفه اثنان لم يعد سرا كما يقولون، و لا لوم على الآخرين إذا ضاقت صدورهم به فقد ضاق صدرك أنت أولا به لهذا فليس من حقك أن تغضب ممن أفشى سرك و أن تعتبرها خيانة عظمى .. و أن تفقد صديقا لهذا السبب وحده .. و أن تبتعد عن الآخرين بسبب ذلك .. فالأمر قد لا يكون خيانة و إنما مجرد عجز بشري عن حفظ الأسرار .. لأنه ليس كل الناس قادرين على الكتمان، و الدليل هو أنت شخصيا الذي يسألك الشاعر و معه الحق:
تبوح بسرك ضيقا به .. و تبغي لسرك من يكتم؟
و أنت ترى أن من حقك أن تنتقد الآخرين و أن تذكر معايبهم لكنك تتألم كثيرا إذا مارسوا معك نفس الهواية فآذوك بألسنتهم و ذكروا معايبك، .. و أنت قد لا تستطيع دائما أن تكف ألسنة الآخرين عنك لكنك تستطيع على الأقل أن تتجنب الكثير منها إذا التزمت في حياتك الشخصية بالتعفف عن ذكر عيوب الآخرين و عوراتهم و إذا صنت عينك عن عيوب الآخرين كما يطالبك الإمام الشافعي و قلت معه دائما: " يا عين للناس أعين "!. أي لهم أعين ترى يا عين عيوبي فلا تري عيوبهم لكيلا يروا عيوبي .. و هذه و تلك بعض مشاكلنا مع الآخرين و بعض مشاكل الآخرين معنا .. و مع كل ذلك فالحياة جديرة دائما بأن نحياها .. و نحن الذين نستطيع أن نجعل منها رحلة هادئة مأمونة من الخوف و الألم و العذاب.
و كل رحلة تحتاج إلى رفاق سفر نستعين بهم (بعد الله سبحانه) على وحشة الطريق و نلتمس لديهم الدفء و الأنس و الصحبة .. و علينا أن نفعل ذلك دائما و لكن بشرط أن نتعلم الحكمة من القنافذ في اقترابها من الآخرين
والله الموفق
ـ[الخلوفي]ــــــــ[15 - 09 - 2010, 12:15 ص]ـ
بارك الله فيك أستاذة زهرة على النقل
أعجبتني قصة الفراشة فجزاك الله خيرا
ـ[معاذ بن ابراهيم]ــــــــ[15 - 09 - 2010, 01:15 ص]ـ
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ... أما بعد:
قصة محزنة في هذا الفلاش بعنوان " لا يصلي أبدا "
http://www.youtube.com/watch?v=B5NjFXy-NKI&feature=related
اللهم اهدنا واهدي جميع المسلمين لما تحبه وترضاه / اللهم آمين.
والله الموفق
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض و يوم العرض
اللهم إنا نسألك عيشة هنية و ميتة سوية و مرد غير مخز و لا فاضح
¥