ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[11 - 11 - 2008, 03:34 م]ـ
وقال الجريري في الجليس والأنيس (1/ 219 - 223):
((ولي في هذا [أي تصغير التعظيم] مذهب استخرجته بنظري، وما علمت أحدا سبقني إليه ولا تقدمني فيه، ولكن الله الذي يؤتي الحكمة من يشاء نبهني عليه؛ وهو أن الاسم المصغر إنما قصد به الدلالة على صغر ذاته وقلة أجزائه وتعلقه بجزء يسير في نفسه، فأما الصغير في ذاته وقلة أجزائه فالحجيرة الصغيرة التي ليست حجرة كبيرة، وأما المتعلق بشيء يسير فكقولك: أتيتك قبيل العصر أو بعيد الفجر فتبين أن المتقدم من الزمان في قولك قبيل يسير قليل، والمتأخر منه في قولك بعيد قصير ليس بطويل، ونحو هذا قديديمة ووريئة في قدام ووراء يجري الأمر فيه من جهة الأمكنة مجراه فيما قدمناه من باب الأزمنة كما قال الشاعر:
قديديمة التجريب والحلم أنني ............. أرى غفلات العيش قبل التجارب
فظن من قال إن التصغير في هذا الباب تكبير لما رأى أن القصد من قائله الإشعار بأمر عظيم وخطب كبير جسيم، ولو تأمل هذا الظان الأمر في هذا لبان له أن الصغير على صغره، فإنه نتج كبيرا وأدى إليه عظيما في نفعه أو ضرره، وكل واحد من الأمرين على حقيقته في نفسه، وخصوصيته في جنسه، فالدويهية هنا صغيرة جرت أمرا كبيرا، كما قال:
رب كبير هاجه صغير ............. وفي البحور تغرق النحور
وقول القائل من المحدثين:
لا تحقرن سُبَيْبا ............. كم جر أمرا سُبَيْبُ
وكان بعض من يتعاطى الأدب ويدأ في طلب المعاني واستنباط لطيفه سمع مني معنى ما ذكرته في هذا الفصل، بعد أن طعن على من قدمت الحكاية عنه في هذا الباب، وقال: كيف يكون الصغير كبيرا؟ وإذا جاز هذا جاز منه أن يصح قول من قال: الداء هو الدواء والسقم هو الشفاء، وهذا مما عبرت عن معناه بلفظي دون لفظ المتكلم به، لأنني لم أصمد لحفظه، ولأنه كن غير بليغ في نفسه ولا مستقيم في ترتيبه، فجليت معناه بلفظ لم آل في إيضاحه وتهذيبه.
وقال هذا القائل: إن الذي اجتبيته في هذا غير مخالف للقول الثاني الذي قدمتَ حكايته عن قائله، فكان من جوابي لهذا القائل أن قلت له: إن الفرق بين قولي وقول من رغبت عن قوله وتسبقني [كذا والصواب: وتنسبني] إلى موافقته، أن هذا الذي حكيت قوله يزعم أن الصغير المذكور إذا جر إلى ضرر فكبيره أبلغ في الضرر منه، وأنا ذهبت إلى أن هذا التصغير يؤثر تأثيرا كبيرا من حيث كان جنسه يؤثر نفعا أو ضرا بكيفيته دون كميته، وضربت لهذا المخاطب مثلا قربت به هذا الفصل عينه حين بعد عنه إدراكه، إذ كان الفرق بين هذين القولين لطيفا جدا، وكان بينهما من بعض الوجوه تناسب وشبه وتقارب. فقلت له: لما كان من الأشياء ما يكون عند قليل أجزائه منفعة جسيمة أو مضرة عظيمة، كالدرياق والسم بولغ في العبارة عن المنافع بها لاشتهار هذا المعنى، كقول الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، وفي الإخبار عن الجنس الضار قول لبيد: دويهية تصفر منها الأنامل
وجملة الفصل بين قولي وقول من خالفته وتوهمت أني وافقته أنه عنى بالكمية وعنيت بالكيفية، وقد يكون من الأشياء ما يؤثر قليله وينتفي تأثيره عن كبيره، كالجروراء من الحيات والصرد والقرقس والبعوض من الجنس الواحد، وكنوع من الحيات ذوات الأجسام اللطيفة وعظيم ضررها، وقصور الحية الكبيرة المسماة الحفاث في ذلك عنها وإن كانت أعظم خلقا وأشنع منظرا، وقد قال أهل العلم بصناعة الطب: إن السقمونيا ينتفع بتناول مقدار فيه يسير ذكروه، ويقاربه في النفع والضر ما قاربه من الأجزاء في المبلغ والقدر، وأنه إذا بلغ من الكثرة مقدارا متفاوتا لم يضرر كبير ضرر، ولم يظهر في أخذه ما يظهر بتناول قليله من الأثر في نفع ولا ضرر، ولقد حدثني بعض متفقهي القضاة أن قوما دسوا شيئا كثيرا من السقمونيا في بعض المطاعم الحلوة لرجل كانوا يعاشرونه وكان معروفا بكثرة الأكل، وأنه أكل جميعه وانصرف عنهم، فندموا على ما كان منهم وأشفقوا على هذا الرجل، وعملوا على الفحص عن أمره واستعلام خبره، فجاءهم يتأوه ويقول لهم: أي شيء طعمتموني فقد عرض لي قولنج برح بي. وأما قول هذا المخاطب لي: كيف يكون الداء دواء والسقم شفاء؟ فإن هذا قد يوجد معنى ويستعمل لفظا، وقد ظهر لعامة الناس وخاصتهم أن الدواء المسمى خُمار العارض عن الشراب المسكر يشفي منه شرب شيء مما تولد الخمار عنه، كما قال الشاعر:
وصرعة مخمور رفعت بقرقف ....... )) إلخ.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[30 - 01 - 2009, 01:22 ص]ـ
وجاء في الرسالة العذراء المنسوبة لابن المدبر:
(( ... وكذلك ينبغي في الرسائل ألا يصغر الاسم في موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزا مثل قولهم: دويهية تصغير داهية وجذيل تصغير جذل وعذيق تصغير عذق، قال لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ............... دويهية تصفر منها الأنامل
وقال الحباب بن المنذر يوم سقيفة بني ساعدة: أنا عذيقها المرجب وجذيلها المحكك)).
والمراد بالاقتباس هو الجزء المعلم بالحمرة؛ لأن الباقي معروف في كتب النحو واللغة.
(تنبيه)
حقق الأستاذ محمود علي مكي في مجلة المجمع (62/ 190) أن هذه الرسالة ليست لابن المدبر ولا تشبه أسلوبه.
وإنما هي لأبي اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني كما هو مكتوب بوضوح في أول المخطوط.
¥