تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حكته التجارب وتعلم أبو قمامة الجوي، منذ أيام الجامعة، بأن المسؤولين لا تجدي معهم سوى الصرامة. حتى شيخ القرية المجاورة قرر أن يساهم، بما تيسر من البدو المحنكين، في هذا الضجيج، لا لشيء إلا لأنه لم يفهم ما هي دار العجزة، فهو لم يفهم بأنها قد تم تخصيصها لأمثاله. وأيضا لم يفهم، من قبل، ما هي دار الثقافة لكن فاتته الفرصة في الاشتعال. أما الآن فها هي فرصته التاريخية ليظهر طاقاته في الاعتراض على القرارات المنفرد بها من طرف كل رئيس وبئيس. فهو بين الدارين لا يعرف سوى الاندفاع نحو الأمام لكي يرسخ ذكره أكثر، في تلك الأذهان التي تبدو وكأنها مصنوعة من التبن، ليس على المستوى المحلي فحسب وإنما قد يذاع صيته على مستوى المدينة أيضا. هذا إن بقي في المدينة من يهتم لمناقب الشيوخ وشموخهم. يقال إن مصائب قوم عند قوم فوائد. فالشيخ لم يفهم دوره الصحيح وإلا لربما سعى إلى تأييد دار العجزة. أما الحق فإن المدينة لا تتوفر على عجوز واحد يمكن إقناعه بالانخراط في هذه الآخرة المصغرة.

تجمهرت الحشود. و بعد أن أحس الرئيس بقوة احتمال أن ينجح هؤلاء في مسعاهم، رغم رهانه الماضي والحاضر المطلق على كونهم يتضورون جهلا وغباءً، اشتعل خوفه. فلطالما كان مقتنعا بأنه لو اجتمعت إنس هؤلاء وجنهم على أن يحركوا ساكنا أو يسكنوا محركا، في شأن من شؤون المدينة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لكن الرئيس الآن بدأ يشك في صدق نظريته وداهمه الإحساس بأن أركانها قد بدأت تتضعضع.

بات الرئيس بين مطرقة ضرورة التناغم مع تيار العولمة، في إطار المنافسة التي بات يخوضها بلا هوادة مع باقي عادات الوطن، وسندان هذا الجمهور الذي لا يتجمهر إلا من أجل لا شيء ولا شيء يوجد بين عنصريه إلا كره مسؤول من المسؤولين. فربع القارئ في الألف طالما استبشر لها سماسرة الانتخابات الجماعية والتشريعية والذين يبيعون ويشترون البضاعات الناخبة. أما الربع الثاني فهو أيضا يتصدر ما تيسر من الأميين. لقد تم إغرائهم وتأجيج غرائزهم بالقول أنه مادامت هناك حاجة للتخلص من دار الثقافة فيجب أن تتحول إلى مؤسسة لمحاربة الأمية. أما المدمنون على شم "السيليسيون" والمعروفين بـ (طبقة الشمكارة) فقد قيل لهم خفية بأن هذه الدار كان على الرئيس أن يحولها إلى منتجع عمومي، وبالتالي يصبح بإمكانهم أن يمارسوا من الشم والتصعلك ما يشتهون إلى يوم يبعثون. وكذلك يمكن لغيرهم أن يمارس هناك ما تشتهي النفس والنحس من العادات السرية المأفونة على مستوى الوعي لما يسمى "المجتمع". أما الصف الأعوج والأخير من هذا الجمهور الحقير فهو يتكون من طبقة المجانين والمعاتيه والخرقى بالإضافة إلى الحمقى الذين تم إدراجهم في نفس الكيس الطبقي نظرا للقرابة الذهنية القائمة بين كيلا النوعين. وقد قيل لهم بأن رئيس البلدية كان عليه أن يحول دار الثقافة، التي هدمها، إلى مستشفى للأمراض العقلية والعاهات النفسية بالإضافة إلى مختبرات خاصة للبحث العلمي عن العقول المفقودة هنا أو هناك. بما أن الحشد كان يتوجس خيفة من أن تنسحب فئة المجانين من مشروع المسيرة، في أية لحظة أو حدب أو صوب، فلقد قرر أن يجعلها بين أميي المدينة وأميي البادية. مع العلم أن أميي البادية معروفون بالنخوة وعدم التخلف عن النزال كما أن القتال وارد بالقوة لكون الحشد لم يتسلم رخصة الانفجار البشري من وزارة الداخلية التي طبعا لا يمكن الاتصال بأحد من أعوانها. فهي مؤسسة اعتبارية كما ينص على ذلك القانون الإداري في إشارته إلى الفرق القائم بين الشخصيات الفيزيائية والميتافيزيقية .. إذن فعلى الجميع أن يدرك، ضمن الجمهور الهائج المائج، بأنهم ليسوا مهدوري الدماء فحسب وإنما الجلود أيضا خاصة وأن جلود الماعز أصبحت مطلوبة في الأسواق المحلية والوطنية نظرا للازدهار الذي حققته الدولة في مجال السلخ والدباغة كردة فعل على تراجعها في مجال التحنيط. من هنا يمكن للقوات السالخة المدججة بالعصي والهراوات أن تتهاطل عليهم بالإفناء الجماعي في أية لحظة. كل هذا كان أبو قمامة الجوي، وغيره من أفراد اللجنة التنظيمية، يدركونه جيدا رغم ترسانات الجهل التي يجرونها خلفهم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير