وقد ألف المعري رسالة الفصول والغايات التي لم يصل إلينا سوى الجزء الأول منها وهو ما يساوى ثلثها تقريبا وأسماها " الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات " كما يرى البعض بينما يرى الآخرون أنها في تمجيد الله والمواعظ ويروى أنه قيل له: ليس هذا مثل القرآن، فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة "13 ترى ماذا يفعل الناقد أمام هذه المقولة التي يقولها المعري وأمام شعره الذي يقول فيه:
أقيم خمسي، وصوم الدهر آلفه وأدمن الذكر أبكارا بآصال
عيدين أفطر في عامي إذا حضرا عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
الشك في الفرائض:
يقف المعري موقفا رافضا للحج ويرى أنه ليس فرضا على العجائز والعذارى طالما بقى هؤلاء الناس الأشرار حول الكعبة:
أقيمي لا أعد الحج فرضا على عجز النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكة شر فقوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى
وكذلك قوله:
هل تزدهي كعبة الحجاج إذا فقدت حسا بكثرة زوار وسدان
فالحج في نظر المعري هو تقليد لا يقف أمام العقل:
وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في زراها
إذا رجع الحكيم إلى حجاه تهاون بالمذاهب وازدراها
ويردد آراء بعض الناس أن طقوس الحج طقوس وثنية:
ما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب
وكذلك قوله:
أرى عالما يرجون عفو مليكهم بتقبيل ركن واتخاذ صليب
ونستطيع أن نقول إن هذا الرأي يبدو متطابقا مع رأى ابن الراوندي تجاه الحج حيث يقول ابن الراوندى: " فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبى قبيس وحرى (جبلان بمكة)، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت"14 ويتفق مع رأى الكندي الذي يقول " هذا فعل الشمسية والبراهمة الذي يسمونه النسك لأصنامهم بالهند، فإنهم يفعلون في بلدهم هذا الفعل بعينه الذي يفعله المسلمون اليوم من الحلق والتعري الذي يسمونه الاحترام والطواف"15
1 - 4
موقف معاصريه ولاحقيه منه:
يتبقى لدينا سؤال: كيف نفسر تأرجح المعري في آرائه بين الإيمان والكفر .. ؟
هل ذلك راجع إلى أعدائه الذين كما يزعم المعري يدسون أبياتا ينسبونها إليه؟ فقد ذكر في سقط الزند "أنا شيخ مكذوبٌ عليه"16
أو أن ذلك يعود إلى موجة الإلحاد التي راجت قبيل عصر المعري وفى أثناء عصره فقد اتهم صالح بن عبدالقدوس وابن المقفع وبشار بن برد وحماد عجرد وأبوعيسى الوراق وابن الراوندى وأبوحيان التوحيدي (ت 400 = 1009 م) بأنهم ملحدون.
إننا لا نستطيع أن ننفي أثر العصر على المعري وعلى تكوينه الثقافي لكننا في الوقت نفسه لا نرى المعري المقلد بل هو المجدد كما أنه لا يتبع طرق من سبقه لكنه يشق بمفرده الطريق الوعر. فقد خالف المعري ابن الراوندى في موقفه تجاه إعجاز القرآن الكريم إذ يقول " وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز"17 وفى الوقت ذاته فإننا لا نستطيع أن نقبل أن كل الأبيات والجمل النثرية التي تتعارض مع الأديان قد وُضعت على لسانه لأن ذلك الجدل حول كتاباته بدأ في حياته مما جعله يؤلف كتبا في تفسير ما اتهم به في كتبه السابقة وعندما نقرأ الرسائل التي بودلت بين المعري وبين داعي الدعاة الإسماعيلي (المؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي الإسماعيلي داعي الدعاة في عصر الخليفة المستنصر بالله الفاطمي) نجد أن ابن أبي عمران الشيرازي يقول في إحدى رسائله للمعرى: " ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه (أي المعري) مختلفين"18 ويحكى الخطيب البغدادي (392 - 463) وهو معاصر للمعرى " أن المعري عارض سورا من القرآن، وحكي عنه حكايات مختلفة في اعتقاده، حتى رماه بعض الناس بالإلحاد"19 ويذكر ذلك الباخرزى (أبوالحسن على بن الحسن بن على بن أبى الطيب الباخرزى) وهو معاصر للمعرى أيضا:
" إنما تحدثت الألسن بإساءته للكتاب الذي زعموا أنه عارض به القرآن"20
وصاح معاصره أبوجعفر محمد بن اسحق بن على البحاثى الزوزنى (ت 463):
كلب عوى بمعرة النعمان لما خلا عن ربعة الإيمان
¥