في الأمر الواقع , و إلى طلب الحيلة في رده و تكذيبه , عسى أن تجد لها متعلقاً تستمسك به. فلما أخفقت الآمال أملاً أملاً , وقطّعها الخبر الذي سمعه بالصدق و اليقين , سقطت نفس الرجل ولم تستمسك على رجولتها و قوتها , وغرقت في دمعها حتى شرقت به. وهذه حالة في الحب القوي العنيف الذي يستولي على القلب , ولا يجعل للحياة بآمالها معنى إذا فقد من يحب , أو ساءه من أمره ما يسوءه. فهذا من أبي الطيب دليل على أن كلامه هذا ليس كلام شاعر يرثي أخت صديقه و أميره , و إنما هو كلام قلب محب مفجوع قد تقطعت آماله من الدنيا بموت حبيب قد فجعته المنية فيه.
ومثل ذلك في الدلالة على ما أصاب قلب أبي الطيب من الفجيعة التي تخصه بموت "خولة" , قوله:
أرَى العرَاقَ طوِيلَ اللّيْلِ مُذ نُعِيَتْ .......... فكَيفَ لَيلُ فتى الفِتيانِ في حَلَبِ
يَظُنّ أنّ فُؤادي غَيرُ مُلْتَهِبٍ .............. وَأنّ دَمْعَ جُفُوني غَيرُ مُنسكِبِ
فليس يطول الليل على شاعر من أجل أخت أمير , و إنما يطول عليه من أجل حبيبته التي فاته بها الموت. ثم زاد أبو الطيب في الدلالة بقوله: إن سيف الدولة يظن أن فؤاده غير ملتهب , وأن دمعه غير منسكب , وما لسيف الدولة و لهذا؟ أيحب سيف الدولة أن يلتهب قلبه و ينسكب دمعه من أجل أخته , أو يسوءه إذا لم يكن ذلك كذلك؟
هذا , ولا نشك نحن = من قِبل ما جمعناه عندنا من الدلائل في هذا الأمر المتعلق بحب أبي الطيب و خولة أخت سيف الدولة = في أن سيف الدولة كان على علم بما كان بينهما من المحبة الغالية على أمرهما , و أنه كان قد وعد أبي الطيب عِدَةً لم يفِ له بها في أن يزوجه أخته هذه , وكان ذلك سراً بينهما , اتصل بعض خبره بأبي فراس الحمداني , فكان سبباً في العداوة الباغية بين الرجلين. لولا علم سيف الدولة بذلك لما استباح أبو الطيب لنفسه أن يكتب هذه القصيدة إلى سيف الدولة , على كثرة الإشارات فيها إلى أمره و أمر (خولة) و الحب الذي بينهما.
ومن الشواهد غير ما ذكرناه مما يدل على الحب الذي بينهما دلالة واضحة لا تخفى على مثل سيف الدولة , قوله:
وَمَن مَضَتْ غيرَ مَوْرُوثٍ خَلائِقُها ............ وَإنْ مَضَتْ يدُها موْرُوثَةَ النّشبِ
وَهَمُّهَا في العُلَى وَالمَجْدِ نَاشِئَةً ............. وَهَمُّ أتْرابِها في اللّهْوِ وَاللّعِبِ
يَعلَمْنَ حينَ تُحَيّا حُسنَ مَبسِمِها ............ وَلَيسَ يَعلَمُ إلاّ الله بالشَّنَبِ
الأبيات الثلاثة , فقد ذكر أبو الطيب أخلاق خولة , ثم ذكر ما كانت عليه من علو النفس و الهمة منذ نشأتها , ثم ذكر ثغرها ابتسامتها , وهذه كافية في الدلالة على معرفته (خولة) معرفة صحيحة عن خبرة ولقاء , وأيضاً قوله:
وَلا ذكَرْتُ جَميلاً مِنْ صَنائِعِهَا ............. إلاّ بَكَيْتُ وَلا وُدٌّ بلا سَبَبِ
وهذا دليل على ما كانت تسبغ عليه (خولة) من صنائعها و فواضلها مما يستجلب له البكاء حين يذكرها , وما نظن أن صنائع "خولة" عنده كانت معشار صنائع سيف الدولة , ولكن حب أبي الطيب هو الذي جعل صنائعها من قلبه بهذه المنزلة. ثم تدبّر قوله: (ولا ودٌّ بلا سببِ) , وفي رواية أخرى (بلا ود ولا سبب) , وكأن هذه الرواية الثانية بها نفي أمر بعينه , كان الوشاة يكثرون القول فيه عند سيف الدولة مع علمه بالأمر الذي بينهما من أن صنائع "خولة" التي كانت تتخذها عند أبي الطيب لم تكن من أجل هذا الود , وإنما كانت من كرم نفسها ز طيب عنصرها. ويكون المقصود بهذه الرواية غير سيف الدولة , ممن كان يتزيد في القول و يتكذب عليه بما هم منه براء , ولينفي التهم بذلك عن هذه التي كان يحبها و يمنحها قلبه.
وإذا شئت الزيادة فاقرأ قوله:
فليت طالعة الشمسين غائبة .............................................
و تدبر البيتين وما فيهما من العاطفة ......... فاقرأ:
وهل سمعت سلاماً لي ألمَّ بها .............................................
ثم أنظر إلى هذا الالتفات إلى الماضي الذي جعلناه من المذهب في الكشف عن أسرار أبي الطيب , إذ ذكر ما كان من حين رثى أخت سيف الدولة الصغرى من ذكر "خولة" هذه , وذلك إذ يقول:
((قاسمتك المنون شخصين جوراً .............................. ))
فعاد يقول في هذه:
¥