تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ ................ كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ

كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندَكُمُ ................. ثمّ انتَفَضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ

وفي هذه الأبيات عندنا قول كثير نوجزه و نمدُّ منه أطرافاً نتفادى بها الإطالة ............ , ففي الأبيات الأولى تأخذ عينك أثر الأحزان التي كانت في قلب الرجل متمثلة مصورة في شعره. و تدبّر عبارته عن آلامه بقول: ((بم التعلُّل؟)) ..... !! و تأمّل هذا السكون الذي يعقب استفهامه و تعجبه , فهو بيان في غير لفظ , ثم يعود إلى القول فيقول: ((لا أهل , ولا وطن , ولا نديم , ولا كأس , ولا سكن)) فقد كان بمصر وليس بها أحد يسكن إليه إلا ولده "محسّد" , وهو مهاجر لا وطن له , وهو بمصر غريبٌ لا صديق له ولا نديم , وقد سئمت نفسه كل شيء حتى الكأس من الخمر لا تسليه ولا تحركه. ثم تمّم ذلك بلوعة قلبه , إذ فقد سكنه وحبيبه الذي يسكن إليه و يأويه. ثم مضى ينتقل في المعن حتى انتقل من تجلّده تارة , ومن أحزانه تارة أخرى , إلى الداء الذي يَسُلُّ قلبه و يسقمه , فقال منتقلاً على عادته التي بينّاها قلب:

(مِمّا أضَرّ (بأهْلِ العِشْقِ) أنّهُمُ ............ هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا)

وهو بيان عن نفسه وما يحزُّ فيها من آلام " خولة" , وما لقيه بعدا من الاضطراب بين رجولته التي تأبى أن تخضع أو تضعف , و بين عواطفه التي تأبى إلا أن تخشع لخولة , و تتعبد بذكرها وهواها وآلام حبها. وكان من جراء هذا الاضطراب أن أنكر (الرجل) قلبه , و قسا عليه و تعنّف به , وذمّ له هذه التي قد تولّه بها , وهي التي أضرّت به و أشقته و عذّبته , شفهاً و جهلاً منه , إذ أراد ما لا يكون , وما تأتي به الأقدار , ولا ترضى به التقاليد الاجتماعية في هذه الدنيا , كما ذكر في البيت الماضي , فقال في عقب ذلك معانداً و مراغماً لما في قلبه:

(تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ .................. في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ)

يرحمك الله يا أبا الطيب ... ثم انطلق يعاند قلبه , ويذم له "خولة" , ولا ذنب لها إلا ما تكلّفه هو بالفراق وبإرادة نسيانها , ((وتأبى الطباع على الناقل)) أن يكون ذلك. ثم أنظر خطابه بعد لسيف الدولة بقوله:

يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ ................ كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ

فوربّك إني لأخال أبا الطيب قد قال هذا البيت وهو يبكي , فإن في الشطر الأخير عبرات من دمعه لا تزال تجول فيه و تترقرق. فكل ذلك آثار بينة على انتقال طبيعة أبي الطيب من تكبرها و عتوّها و تزمّتها , إلى حالة نفسية طارئة قد نفذت فيه آلامها و أهوالها , فهو يعاني منها ما يعاني , و يضطرب لها و يهتز و يتلذع , حتى كان شعره بعد فراق سيف الدولة كثير الشكوى , مخالطاً بالحزن و الحسرة و الألم , وقد تنبه إلى ذلك أبو الطيب نفسه , فقال في قصيدة من مدائحه لكافور , في شوال سنة 347هـ:

لحَى الله ذي الدّنْيا مُناخاً لراكبٍ ................ فكُلُّ بَعيدِ الهَمّ فيهَا مُعَذَّبُ

ألا لَيْتَ شعري هَلْ أقولُ قَصِيدَةً ................ فَلا أشْتَكي فيها وَلا أتَعَتّبُ

وَبي ما يَذودُ الشّعرَ عني أقَلُّهُ ................... وَلَكِنّ قَلبي يا ابنَةَ القَوْمِ قُلَّبُ

وهذا الذي مما يذود عنه الشعر و يمنعه من أن يقوله , هو الذي ذكره أوّلاً فيما تقدم:

وَلَكِنْ حَمَى الشّعْرَ إلاّ القَليـ ............... ـلَ هَمٌّ حَمَى النّوْمَ إلاّ غِرارَا

وَما أنَا أسقَمْتُ جسمي بِهِ ................. وَلا أنَا أضرَمتُ في القلبِ نَارَا

وهو حب "خولة" الذي ملأ قلب الرجل و أخذه و تفرّد به دون فكره و إرادته.

فلما ماتت "خولة" رحمها الله سنة 352هـ بعد خروجه من مصر , تغيرت طبيعة أبي الطيب و اسودّت الدنيا في عينه , وامتلأ قلبه حزناً , وتقطعت نفسه عليها حسرات , فكان شعره بعدُ من هذه المادة , و أوّل ذلك ما كان من شعره في القصيدة التي رثاها بها , إذ يقول لسيف الدولة:

فَلا تَنَلْكَ اللّيالي، إنّ أيْدِيَهَا .................. إذا ضَرَبنَ كَسَرْنَ النَّبْعَ بالغَرَبِ

وَلا يُعِنّ عَدُوّاً أنْتَ قاهِرُهُ .................. فإنّهُنّ يَصِدْنَ الصّقرَ بالخَرَبِ

(وَإنْ سَرَرْنَ بمَحْبُوبٍ فجَعْنَ بهِ ............... وَقَد أتَيْنَكَ في الحَالَينِ بالعَجَبِ)

(وَرُبّمَا احتَسَبَ الإنْسانُ غايَتَهَا ................ وَفاجَأتْهُ بأمْرٍ غَيرِ مُحْتَسَبِ)

وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ...................... وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلاّ إلى أرَبِ

تَخالَفَ النّاسُ حتى لا اتّفاقَ لَهُمْ ............. إلاّ على شَجَبٍ وَالخُلفُ في الشجبِ

فقِيلَ تَخلُصُ نَفْسُ المَرْءِ سَالمَةً ............. وَقيلَ تَشرَكُ جسْمَ المَرْءِ في العَطَبِ

وَمَنْ تَفَكّرَ في الدّنْيَا وَمُهْجَتهِ .................. أقامَهُ الفِكْرُ بَينَ العَجزِ وَالتّعَبِ

و أعد قراءة الأبيات الثلاثة الأخيرة , وتدبر نفس أبي الطيب فيها , فهو يكاد ينقطع و يسقط من العجز و التعب و الفكر في الذي أصابه بموت حبيبته "خولة". فإذا أردت أن تعرف تمام حالة أبي الطيب هذه , وامتداد فكره فيها , فاقرأ قصيدته التي قالها حين توفيت عمة عضد الدولة بن بويه سنة 354هـ , قبيل موت أبي الطيب بقليل و التي يقول فيها:

نحنُ بَنُو المَوْتَى فَمَا بالُنَا ................... نَعَافُ مَا لا بُدّ من شُرْبِهِ

....................................

لَوْ فكّرَ (العاشِقُ) في مُنْتَهَى ................... حُسنِ الذي يَسبيهِ لم يَسْبِهِ

صلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله و أصحابه و سلم

اللهم أعني على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير