[من روائع ابن باديس في التفسير (2)]
ـ[محمد السيلاوي]ــــــــ[01 Oct 2008, 11:24 ص]ـ
قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء: 36).
العلم وحده الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقاً: يستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه؛ لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه عن تفكيره ونظره. وهذه الإدراكات الحاصلة عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف فمنها ما هو قوي معبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الاعتبار.
فالأول: العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو علم الاعتبار. ويليه الظن، وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتلة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك. وهذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازاً.
والثاني: الوهم، وهو إدراك الأمر على الوجه المرجح.
والشك، وهو إدراك الأمر على وجهين، أو وجوه متساوية في الاحتمال، وكلا هذين لا يعول عليه.
ولما كان الإنسان – بما فطر عليه من الضعف والاستعجال – كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه، وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال .. بيّن الله تعالى لعباده في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم، ولا يصح منهم البناء لأقوالهم وأعمالهم، واعتقاداتهم إلا على إدراك واحد وهو العلم، فقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم، فنهانا عن أن نعتقد إلا عن علم أو نفعل إلا عن علم، أو نقول إلا عن علم.
فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلا تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر. ولا كل ما نسمعه أو نراه نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح.
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر، فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان والمكان والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون – وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة –وإلا طرحناه. ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بينة من خيره وشره، ونفعه وضره. فما أمر تعالى إلا بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلا عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلا تركناه. فلا تكون عقائدنا –إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلا حقاً. ولا تكون أقوالنا إلا صدقاً. ولا تكون أفعالنا إلا سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، وإلا بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
المعنى:
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه بأن يكون من عقائد الحق، وأقوال الصدق، وأفعال السداد. فأما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه. وأما ما كان من أفعال السداد فكذلك. وأما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل: إذ ليس كل قول صدق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته: لأنها غيبة محرمة، ولا يجابه بها في حضوره لأنها أداة؛ إلا إذا ووجه بها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ. وهكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها، أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
تفريع:
الفرع الأول:
من اتبع ما ليس به علم فاعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور .. فهو آثم من جهتين:
1. اتباعه ما ليس له به علم.
¥