"وما ذكره الطبري ـ أيضا ـ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ:"كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ فَهِيَ رَحْمَةٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيحِ فَهُوَ عَذَابٌ".
أما لماذا تفاجأت، فلأن اطلاق مثل هذا الكلام دون استقراء للألفاظ القرآنية أمر غير مطمئن، وعلى وجه الخصوص عندما يصدر عن علماء كبار. وقد كنا نسمع هذا من بعض المعاصرين، ويبدو أنهم قد تأثروا بأقوال القدماء من غير تمحيص.
لو قالوا:"كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ فَهِيَ رَحْمَةٌ" لصدقوا، أما قولهم:"وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيحِ فَهُوَ عَذَابٌ" فغير صحيح اطلاقاً، وإليك الدليل:
"حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ .. "يونس: 22
"وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ": يوسف 94
"وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ
عَالِمِينَ": هل المقصود أنها تجري بالعذاب فقط؟! أم أن سليمان عليه السلام كان
يجريها بالخير أيضاً؟! ويرد هذا الفهم الآية التالية:"فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ
رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ " ص:36و"وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .. " سبأ12
التعليق الأول: يقول ابن القيم في بدائع الفوائد في فصل الأصل في الأسماء المفرد:
(ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح لرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها ما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سورتها فكانت في الرحمة ريحا
وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: (أرسلنا عليهم الريح العقيم) الذاريات 41 وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) يونس 22 فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحا ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم
فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب).
بدائع الفوائد لابن القيم 1/ 125، 126، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي، ط مكتبة الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1416 - 1996
الثاني: ألا ترون أن ملامح المنهج الذي تفضلتم به موجود جملة في كتب الغريب كالمفردات للراغب وعمدة الحفاظ للسمين، وتطرق لمثله اسحاق بن إبراهيم الفارابي في ديوان الأدب، وتجد في بدائع الفوائد أمثلة كثيرة موضحة لذلك كما في الريح والرياح والله أعلم
ـ[أبو المهند]ــــــــ[18 Oct 2008, 11:12 ص]ـ
[ QUOTE= محمد بن جماعة;64007]
ثم أود لفت الانتباه إلى ملاحظة مفيدة من د. مساعد الطيار، حول التمييز بين (الكليات التفسيرية) و (كليات القرآن). إذ قال:
((فالكليات التفسيرية مثل (كل ما في القرآن من الخير فهو المال).
وكليات القرآن هي الجمل المبدوءة بكل، مثل: (كل نفس ذائقة الموت)، (كل من عليها فان)، وهذا النوع لم يُبحث ـ فيما أعلم، والله أعلم.))
وفيت يا أخ محمد ونريد المزيد من النماذج وجزاكم الله خيراً.
أما ما يتعلق بالتمييز بين كليات القرآن وكليات التفسير فأقول:
في حال تعرض المفسر لكليات القرآن لايوجد لدى المفسر ولا التفسير كليات بدون القرآن، إذ القرآن هو موضوعه الذي يسقط عليه لفظ " كل" اللهم إلا إذا خرج عن نطاق القرآن وتفسيره فتتحول الكليات إلى الفن الذي يعنيه وهنا تتلون بلونها النحوي أو البلاغي أو ..........
ومن هنا يقول المفسر " كل ما ورد في القرآن من لفظ كذا فمعناه كذا "
فمن حيثية ورود المفردة في القرآن فهي من عين كليات القرآن ـ من وجهة نظر المفسر ـ لا التفسير المصدر.
ومن حيثية الحكم على أنها ـ أي الكلمة أو العبارة القرآنية ـ كلية فهي كلية مفسر ـ وليست كلية تفسير، إذ لو حكمنا عليها بكلية التفسير لأخذ حكم المجمع عليه تفسيرياً وهذا لم يحدث إلا قليلا، وكلامك السابق وجدولتك المقترحة المفيدة تثبت عين ما أقوله، كما أننا لم نُسبق بمن قسم التفسير إلى كلي وجزئي.
ومن هنا عندما نقول كليات القرآن يكون المعنى: تجميع الآيات المتحدة في المعنى قرآنياً من ناحية، وتصدق ـ أيضاً ـ على ما اجتمع في اللفظ ككل وجميع وهلم جرا.
والخلاصة:
أنه عندما نقول كليات التفسير فلنا أن نسأل: ما المقابل للكليات في التفسير؟ وهل قال أحد بجزئيات التفسير؟ وهل لهذا التقسيم سابق من أهل العلم؟ ولا يهم عدم وجود سابق فيما فيه سعة وابتكار لا يخالف الثوابت ـ فالعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة ـ بل المهم تجذير ما به نقتنع بالجديد.
وأؤكد أن هذه مصطلحات لا مشاحة فيها، وإن كنا فاعلين فالصواب: " كليات المفسر " لا التفسير ـ على كل حال ـ.
وكلي شوق للإفادة فالعلم يم لا ساحل له.
والله الموفق
¥