وذكره سبحانه لحالهم هذا وأنهم كما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين، عوقبوا في البرزخ والقيامة، بأنهم لا يقومون من قبورهم، أو يوم بعثهم ونشورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من الجنون والصرع يدل على الترهيب من هذا العمل الذي يكون مصير فاعله في الآخرة هذا الحال.
تنبيه:
هذا الوعيد ليس خاصاً بالأكل فليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكل إلا أن الذين نزلت فيهم هذه الآيات كانت طعمتهم ومأكلهم من الربا فذكرهم بصفتهم معظماً بذلك عليهم أمر الربا ومقبحاً إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم ويدل لهذا القول قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" الآية [البقرة: 278] فالتحريم من الله في ذلك لكل معاني الربا وهي تدل على أن العمل به وأكله وأخذه وعطاؤه سواء ([6]).
الوجه الثاني:-
في قوله تعالى:- (وأحل الله البيع وحرم الربا). وهذا تحريم صريح جازم في كتاب الله ([7]).
ومعنى الآية:-
أن الله تعالى أحل البيع وحرم نوعاً من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا.
الوجه الثالث:- في قوله تعالى:- (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
ففي هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان ([8]).
2. الدليل الثاني من القرآن:- قوله تعالى:- (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفّار أثيم) [البقرة: 286].
وهذه الآية أيضاً تدل على تحريم الربا ويستدل بها على ذلك من أربعة وجوه هي:-
الوجه الأول:-
أنَّ الله تعالى يذهب الربا إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة ([9]).
وهذا يدل على تحريمه لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً كما ورد ذلك في عدة أحاديث ([10]).
الوجه الثاني:-
في قوله تعالى:- "والله لا يحب كل كفار أثيم"
فحرمانه ([11]) من محبة الله يستلزم بغضه ومقته له ([12])، وهو يدل على تحريم عمل المرابي الذي بسببه استحق غضب الله ومقته.
الوجه الثالث:-
تسميته كفاراً، أي مبالغاً في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء، واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من إنظاره وتأخير دينه إلى الميسرة وإسعافه بالصدقة، أو كفاراً الكفر المخرج من الملَّة إن استحلَّه ([13]).
الوجه الرابع:-
تسميته أثيماً وهي صيغة مبالغة من الإثم، وهو كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما ([14]).
3. الدليل الثالث من القرآن الكريم:- قوله تعالى:- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون" [البقرة: 278 – 279]. وهاتان الآيتان تدلان على تحريم الربا من عدة وجوه هي:-
الوجه الأول:-
من قوله:- "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا":-
حيث أمر الله تعالى عباده المؤمنين بتقواه نهياً لهم عمَّا يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون "وذروا ما بقي من الربا" أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار ([15]).
وهذا يدل على أن الربا من أسباب سخط الله تعالى لأن الله نهى المؤمنين عنه وأمرهم بالتخلص مما بقي منه ومن خالف أمر الله تعالى فقد عرَّض نفسه للهلاك والعقاب إن لم يتب إلى الله تعالى فيتوب الله عليه.
الوجه الثاني:-
من قوله تعالى:- "إن كنتم مؤمنين":- أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك ([16]).
ومما يفهم من الآية الكريمة أن من مقتضيات الإيمان ترك الربا ([17])، وهذا يدل على تحريمه.
الوجه الثالث:-
من قوله تعالى:- "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله":-
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ([18])، وأذان الحرب من الله ورسوله بسبب هذه الجريمة يدل على أنها من الكبائر ([19]).
يقول الإمام القرطبي- رحمه الله-: (دلت هذه الآية على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر) ([20]).
الوجه الرابع:-
من قوله تعالى:- "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون".
¥