إن هذا الهدهد العجيب: يتسق بإسمه - فى إعجاز بالغ وجمال بديع - مع الدور الرائع الذى أداه فى قصة هداية بلقيس إلى الإيمان. . لقد جاء إسمه فى مقام الهدى والهداية - كما سبق القول - وبين الهدى والهداية والهدهد لون من ألوان الجناس، فالطائر المناسب فى المكان المناسب: قاعدة مطردة فى قصص القرآن العظيم
يؤكد هذا: ان الحق سبحانه فى قصة ولدى آدم: (قابيل وهابيل) ذكر الغراب بالتحديد ولم يذكر غيره، وإختار الغراب من بين سائر الطير ليتعلم قابيل: كيف يوارى سوءة أخيه؟ إذ لا يصلح غيره للقيام بهذه المهمة، وأداء هذا الدور الذى يبدو فيه معلماً لقابيل دفن الموتى، ذلك أن الغراب "طائر أسود محترق قبيح الشمائل ردئ ليس من بهائم الطير المحمودة، ولا من سباعها الشريفة، وهو طائر يتنكد به، ويتطير منه، آكل جيف، ردئ الصيد، وكلما كان أجهل وأنزل كان أبلغ فى التوبيخ والتقريع على أنه من ناحية أخرى يمتاز بحدة البصر، وشدة المنقار حتى إنه ليصل إلى الكمأة المندفنة فى الأرض بنقرة واحدة حتى يشخصها وهو من قبل ومن بعد - أكثر من جميع ما يتطير به فى الشؤم ألا تراهم كلما ذكروا مما يتطيرون منه شيئاً ذكروا الغراب معه؟ وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كل واحد فى هذا الباب، لا يمكنهم أن يتطيروا إلا من وجه واحد، والغراب كثير المعانى فى هذا الباب فهو المقدم فى الشؤم.
مما لا شك فيه أن الغراب الذى هذه هى أوصافه وخصائصه هو الطائر الوحيد المناسب للجو الأسود الحزين الذى يغلف هذه المأساة. .مأساة قتل قابيل لأخيه هابيل ولا سيما أن الغراب خلق أسود ويموت أسود ولا يشيب أبدأ [ومن طلب النجاح بغير كد: سيدركه إذا شاب الغراب].
والغراب ذو المنقار الحاد والذى من عادته دفن الأشياء هو المناسب لتعليم قابيل كيف يوارى سوءة أخيه.
والغراب بإسمه ولفظه يتناسق مع (الغربة) و (الغرابه) اللذين توحى بهما تلك المأساة التى وقعت لأول مرة فى تاريخ البشرية، لقد أدت هذه المأساة إلى غربة هابيل عن الحياة الدنيا، وغروب شمس حياته من الوجود، ولم يدر قابيل أن سفكه لدم أخيه جريمة تستغرب وتستقبح!!
فالغراب هنا مقام الغربة والغرابه والغروب، والهدهد هناك فى مقام الهدى والهداية. . إنه التناسق فى الإسم، وفى اللون وفى المعنى، وفى الإيماء. . يراه الإنسان حينما يقف وقفة تأمل فيما يسوقه القرآن الكريم من عجائب!!
...... وعجائب القرآن لا تنتهى،،
ومن عجائب القرآن الكريم: إشارته إلى كثير من الكشوف العلمية الحديثة قبل أن يعرفها العالم بمئات السنين.
* خذ لذلك مثلاً من قوله تعالى - فى سورة العنكبوت -: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) الآية 41، وهذا القول الكريم - كما ترى مثل ضربه الله تعالى لبيان فساد ألوهية الأوثان، وتشبيه لحال هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله انداداً فى لجوئهم واحتمائهم بهؤلاء الانداد الضعفاء المتناهين فى الضعف بحال العنكبوت حينما تأوى إلى بيتها الضعيف الواهى وتحتمى به.
هذه الصوره العجيبة، وذلك التشبيه البديع جاء فى ثناياه قوله تعالى (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ)، وقد أثبت علماء الحشرات - فى عصرنا - أن بيت العنكبوت حقاً: أسوأ البيوت، فالأنثى تقتل الذكر عقب تلقيحه لها إذا تمكنت منه ولذا فإنه يبادر إلى الهرب والبيض حين يفقس يأكل الصغار بعضها بعضاً كما يفترس العنكبوت كل حشرة تقع فى شباك نسيجه وعبر الله عن الوهن - وهو الضعف - فنسبه الى البيوت لا إلى الخيط لأن خيط العنكبوت أقوى من مثليه فى السمك لو صنعنا مثليه من الصلب فهو فى متانة ثلاثة خيوط صلب، وهو كذلك أكثر متانة ومرونة من خيط الحرير، ويقول علماء الحشرات أيضاً إن أنثى العنكبوت - وليس الذكر - هى الى تصنع بيت العنكبوت، فهل نقول: إن القرآن أنث الفعل (إتخذت) للدلالة على هذا؟ ([29]) أم نقول إن اللغة تشترك فى التسمية بلفظ النمل والنحل والعنكبوت بين الذكر والأنثى؟.
أياً كان الأمر: فإن العرب، بل والعالم لم يكتشف هذا إلا بعد نزول
القرآن الكريم بمئات السنين!. والرائع حقا أن الآية ختمت بقوله تعالى: (لو كانوا يعلمون) إشارة إلى أن ذلك علم لن يظهر إلا متأخراً ومعلوم أن هذه الأسرار البيولوجية لم تظهر إلا متأخرة ([30]).
* وخذ شاهداً ثانياً من قوله تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) ([31]) فأشار سبحانه إلى أن البنان غير متساوية، وهذا هو الأصل الذى يتكئ عليه اليوم خبراء البصمات فى الإنتفاع بها عند إثبات الشخصية؛ لأن تسوية البنان لا يتشابه فيها اثنان ([32]).
كذلك نجد فى سورة الكهف (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) الكهف: 25، وقد ثبت علمياً أن ثلاث مائة سنة بالتقويم الشمسى تساوى ثلاث مائة وتسعة بالتقويم القمرى باليوم والدقيقة والثانية ([33]).
ونجد أيضاً فى الآيات (23 - 26) من سورة مريم يقص الحق سبحانه عن مريم كيف جاءها المخاض، فآوت إلى جذع النخلة وهى تتمنى الموت، خوفاً من العار فى وجهة نظرها البشرى، فناداها المنادى أن تهز بجذع النخلة، وتأكل ما يتساقط من رطب جنى. وقد ثبت الآن علمياً أن الرطب فيه مادة قابضة للرحم تساعد على الولادة، وتساعد على منع النزيف بعد الولادة، مثل مادة Oxytocin، وأن فيه مادة لنية، وقد أثبت الطب أن الملينات النباتية تفيد فى تسهيل وتأمين عملية الولادة، بتنظيفها للقولون ([34]).
... وغير ذلك كثير، لأن عجائب القرآن لا تنقضى كما قال خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.
¥