تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"السحاب" الذي علّق بين السماء والارض يسقي روضة الارض سقياً يتفجّرُ حكمةً ورحمة، ويُمد سكنتها بالماء الباعث للحياة، ملطِّفاً به شدة الحرارة - أي شدة ضرام العيش - ويدرك تواً أينما كانت الحاجة. ومع ان ذلك السحاب الثقيل الضخم يقوم بوظائف كثيرة امثال هذه، فانه يختفي ويتبدد فوراً بعد ان ملأ أرجاء الجو. فتنسحب جميع أجزائه لتخلد الى الراحة، فيتوارى عن الانظار دون ان يترك أثراً بمثل ظهور واختفاء الجيش المنظم طبقاً لأوامر فورية. ولكن ما ان يتسلّم أمر "هيا لإنزال المطر" الاّ ويجتمع ويملأ الجو في ساعة بل يغمره في دقائق، ويتهيأ متأهباً كالجندي المنتظر أمر القائد!

ثم ينظر ذلك السائح الى " الرياح " التي تجول في الجو فيرى ان الهواء يستخدم في وظائف كثيرة، في منتهى الحكمة والكرم استخداماً كأن كل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد - وهي لاتملك شعوراً - تسمع وتعي مايلقى اليها من الأوامر الصادرة من سلطان هذا الكون. فتؤدي خدماتها بقوة ذلك الآمر وهيمنته وتنفّذها بكل انتظام ودقة دون أن تتوانى في شئ منها فتدخل هذه الذرات في استنشاق جميع أحياء الارض للهواء، او نقل الاصوات او المواد الضرورية لذوي الحياة كالحرارة والضوء والكهرباء، او التوسط لتلقيح النباتات او ما شابهها من الوظائف الكثيرة، فهي تستخدم بجميع هذه الخدمات من قبل يد غيبية استخداماً في منتهى الشعور، والعلم، والحيوية.

ثم ينظر الى "المطر" فيرى أن تلك القطرات اللطيفة البراقة العذبة التي ارسلت واغدقت من خزينة الرحمة الغيبية، تزخر بهدايا رحمانية ووظائف غزيرة حتى كأن الرحمة المهداة قد تجسّدت منصبة من عيون الخزينة الربانية على صورة تلك القطرات المتهاطلة .. ولهذا أطلق على المطر اسم "الغيث" .. و"الرحمة".

ثم ينظر الى "البرق" ويصغي الى "الرعد"، فيرى أنهما يستخدمان في امور بالغة الاعجاب والغرابة.

فيرجع بَصَرهُ الى عقله، ويحاور نفسه قائلاً:

ان هذا السحاب الجامد الخالي من الشعور، والمنفوش كالعهن، لاشك أنه يجهلنا ولا يعرفنا، ولايمكن ان يسعى بنفسه لامدادنا رأفة بنا ورقة لحالنا، ولايمكن أن يظهر بادياً في السماء ويختفي منقشعاً بدون أمر، بل لابد انه يسعى في وظيفته وفق أمر صادر من آمر قدير مطلق القدرة، ورحيم مطلق الرحمة. حيث يختفي دون ان يعقب، ثم يظهر فجأة، متسلماً مهام عمله، فيملأ عالم الجو ويفرغه بين الفينة والفينة تنفيذاً لأمر سلطان جليل متعال فعال، فيخط على لوحة السماء دوماً بحكمة، ويمحو بالاعفاء، محولاً اياها الى "لوحة المحو والاثبات" والى صورة مصغرة للحشر والقيامة. اذ يركب السحاب متون الرياح بأمر من حاكم مدبّر ذي ألطاف واحسان وذي إكرام وعناية، حاملاً خزائن أمطار واسعة سعة الجبال وضخامتها مسعفاً بها مواضع من الارض محتاجة اليها، وكأنه يرقّ لحالها فيبكي عليها بدموعه ويطلقها ضاحكة بالازاهير والرياحين، ويخفف من شدة لفحة الشمس ويسقي بساتين الارض ومروجها ويغسل وجهها واديمها ويطهرها من الاقذار ليشرق بالصفاء والرواء. ثم يحاور ذلك المسافر الشغوف عقله قائلاً:

ان هذا الهواء الجامد الذي لاحياة له ولاشعور ولاثبات له ولاهدف، وهو في اضطراب دائم، وهيجان لايسكن، وذا عواصف وأعاصير لاتهدأ، تأتي الى الوجود وتبرز بسببه - وبصورته الظاهرة - مئات الألوف من الاعمال والوظائف والنعم والامدادات العامرة بالحكمة والرحمة والاتقان، مما يثبت بداهة: انه ليست لهذه الرياح الدائبة حركة ذاتية، فلا تتحرك بذاتها ابداً وانما يحركها أمر صادر من آمر قدير عليم مطلق وحكيم كريم مطلق، وكأن كل ذرة من ذراته تفهم وتسمع - كالجندي المطيع - كل أمر صادر من لدن ذلك الآمر وتدركه فتنقاد اليه، وتجعل الأحياء جميعها تتنفسها لتسهم في ادامة حياتها، وتشارك في تلقيح النباتات ونموها، وتعاون في سوق المواد الضرورية لحياتها، وسوق السحب وادارتها وتسيير السفن التي لا وقود لها وجعلها تمخرالبحار وتسيح فيها، وتتوسط خاصة في ايصال الاصوات والمكالمات والاتصالات عبر امواج اللاسلكي والبرق والراديو، وامثال هذه الخدمات العامة الكلية، فضلاً عن ان ذرات الهواء مركبة من مواد بسيطة كالازوت ومولد الحموضة (الاوكسجين) ومع تماثل بعضها لبعض فلا أراها الاّ أنها تستخدم بيد حكيمة وبانتظام كامل في مئات الألوف من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير