ما يهمنا في هذه الآية هو ما يتعلق بموضوعنا عن تحريف ما أنزل قبل النبي عليه السلام، لو كان قد تحرف فكيف يؤمن هؤلاء إيمان شهادة به وبالقرآن!!
لا يصح أن يوصف هؤلاء بأنهم مؤمنون إيمان شهادة بما أنزل قبل القرآن إلا إذا كانت التوراة والإنجيل حاضران موجودان لا تحريف فيهما ولا نقص.
كيف يؤمن هؤلاء بالقرآن وبالتوراة والإنجيل إيمان شهادة؟
الشهادة في الأمور المحسوسة تثبت بالرؤية بالأبصار، وفي الأمور المعقولة تثبت بالرؤية بالبصائر، مثلا:
تلميذ علم نتيجة مسألة رياضية من أستاذه فصدقه، وآخر استطاع أن يحل المسألة بنفسه فتوصل إلى نفس النتيجة، أي التلميذين أكثر هدى من الآخر؟
لا شك أن التلميذ الثاني هو الأهدى لأنه عنده من الحجج ما يبرهن به على صحة كلامه، فقد رأى بالبرهان (إيمان شهادة).
إذا فالذي يبرهن على صحة الإنجيل الموجود بين يدي النصارى ويبرهن على حكمة القرآن يعتبر مؤمنا إيمان شهادة بما أنزل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وما أنزل من قبله، وبالتالي فهو من الذين قال الله عنهم: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
المشكل الأكبر والأساسي الذي جعلنا نقول بتحريف الإنجيل هو الكلام المنسوب إلى المسيح عليه السلام الذي يصرح فيه بأبوة الله له وهو ما يتعارض مع ما جاء في القرآن من تنزيه لله عن ذلك، ولا شك أن ادعاء بنوة المسيح على الحقيقة لله هي التي ينفيها القرآن ويكفر معتقديها، أما لو كانت مجازا فالناس كلهم أبناء الله وعياله، فإذا كان ضرب المثل الأعلى لله جائزا بنص القرآن فإن استعماله مجازا لله جائز، وبما أن المثل الأعلى للرحمة هو رحمة الأبوين فإنه يجوز أن يقال: أبانا ارحمنا واغفر لنا، مثل هذه العبارة موجودة في إنجيل النصارى.
لكي نصل إلى اليقين لحل هذه المسألة علينا أن نستحضر في أذهاننا بينات المسيح عليه السلام،ونقيمها بقيمتها التي تستحقها، ثم بعد ذلك نرى إن كانت الرحمة مساوية للهدى فذلك هو الحق والحكمة التي ينبغي أن تكون.
المسيح عليه السلام جاء بأعظم الآيات الحسية التي يمكن أن يأتي بها رسول من عند الله، فالغاية من إرسال الرسل هي تذكير الناس بأن ربهم الذي خلقهم هو الله، وأن بعد الموت حياة أخرى، فجاء المسيح بآية خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيها فصارت طيرا بإذن الله، هذه بينة أن الله هو الرب الذي خلق من طين، وآية إحياء الموتى بينة للإيمان باليوم الآخرِ. إذن فالهدى بالآيات الحسية بلغ أعلى مستوياته في عهد المسيح عليه السلام، ومن الحكمة أن تبلغ الرحمة هي الأخرى أعلى مستوياتها لتتناسب مع مستوى الهدى، وأعلى مستوى للرحمة هي الرحمة الأبوية،
إذا فالإنجيل يمثل تلك الرحمة الأبوية التي تتناسب مع مستوى الهدى الذي جاء به المسيح.
وهكذا يتبين لنا أن المثل الأعلى للهدى بالآيات الحسية للإيمان بالله واليوم الآخر هي بينات عيسى عليه السلام، يعبر عنه بأعلى مثل للرحمة: الرحمة الأبوية، ومن ليس له أب هو الأولى والأحق بالرحمة الأبوية ممن له أب. والمسيح أحق بها.وإذا كان لفظ (البشرى) يطلق وصفا للرحمة التي يأتي بها أي رسول من ربه فإن الوصف يجب أن يصير اسما علما للرحمة التي أوتيها المسيح عليه السلام، فأعلى مستوى للصفة هو أن تصير اسما علما،فالإنجيل كلمة يونانية تعني البشارة أو البشرى.
رسالة المسيح عليه الصلاة والسلام وبيناته تنبأ برسول جديد يأتي بهدى آياته غير حسية لأن آيات المسيح هي أعلى الآيات الحسية، فالمعلم لا يأتي بدرس جديد حتى يبين الدرس السابق بيانا مطلقا واضحا كل الوضوح ويختبر التلاميذ فيه، وهذا هو ما حصل فعلا، فالهدى بالآيات الحسية يبتدئ إيمانا بالشهادة لمن رآها ثم يصير إيمانا بالغيب للخلف، والهدى بالآيات العلمية يبتدئ إيمانا بالغيب (لأن العلم يستغرق زمنا) ثم يصير إيمان شهادة للخلف بعد حين.
من خلال ماتوصلنا إليه يتبين لنا (أو على الأقل يتبين لي) أن النصارى حولوا المجاز إلى حقيقة، ذلك هو الغلو، فالغلو هو تقييم الشيء بأكثر من قيمته الحقيقية. ومن الخطأ أن نظن أن الإنجيل كتاب كالقرآن، لو كان كالقرآن لكان آيات حكيمة لن يفقهها إلا العالمون، ولو كانوا يعلمون لما احتاجوا إلى آيات حسية ليهتدوا، وهل الآيات التي أوتيها المسيح ليست كافية للإيمان بالله واليوم الآخر إلا إذا عززها الله بآيات أخرى حكيمة في كتاب!!
إذا جاء رجل صحبة رئيس الوزراء ومعه كاميرات التلفزيون والصحافة وحراسة من الشرطة ليعلن للناس أن ملك البلاد عينه عليهم محافظا، هل ما زال يحتاج إلى كتاب تعيين من الملك يريه للناس لكي يصدقوه!!
لو كان الأمر يتطلب كتابا لتصديقه فما فائدة ذلك الهيلمان وتلك الزفة من الكاميرات والصحافة ... !!
وإذا كان هذا المحافظ نائبا عن الملك فإن كل قراراته وأنشطته هي من إملاء الملك وباسمه قضيت، فهل على الناس ألا تعتبر أفعال وأقوال المحافظ وأنشطته من أوامر الملك إلا إذا كانت مدونة في كتاب بخط يد الملك!!
وبالمقابل لو جاء هذا المحافظ بكتاب مكتوب بخط يد الملك وعليه توقيعه وخاتمه فإن الملك ما فعل ذلك إلا لأنه يعلم أن الناس يعرفون خط يده وتوقيعه وخاتمه وأن الكتاب وحده كاف كآية لهم، فلو لم يكتف الناس بالكتاب كآية وطالبوا بآيات أخرى فكأن الكتاب وحده غير كاف وبالتالي لو أجاب الملك طلبهم فمعنى ذلك أنه كان على خطأ.
¥