- ومنهم من يعرب قراءته، ويبصر المعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس، والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب، إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية، لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا" ([25]).
ومن هذه الفئات انتخب ابن مجاهد (السبعة)، مما يؤكد أن هؤلاء (السبعة) ليسوا - وحدهم- من تحمل مسؤولية نقل القرآن إلى الأجيال اللاحقة؛ وإنما هم أفضل النقلة، مما يدعم القول بالتفريق بين (الحفاظ) الناقلين القرآن من جيل إلى جيل، وبين (القراء) المتقنين المتفننين في أداء القرآن، ويدعم - أيضا- القول بأن القراءة: فعل نخبويّ، بينما الحفظ والنقل: فعل عاميّ أمميّ.
هذه المقالة مدعومة من ابن مجاهد نفسه، الذي يؤكد أن القراء اختاروا من الحفاظ ومن القراء ما استحسنوه في قراءاتهم، متوسلين بمبدأ الانتخاب، لا مبدأ التسليم والانقياد، ومما حكاه ابن مجاهد من اختيارات القراء:
1 - يقول ابن مجاهد: " حدثني الحسن بن أبي مهران قال: حدثنا أحمد بن يزيد عن عيسى ابن مينا قالون قال: كان أهل المدينة لا يهمزون، حتى همز ابن جندب، فهمزوا: (مستهزئون) و (استهزئ) ([26]).
2 - حدثني محمد بن الفرج قال: حدثنا محمد بن إسحق المسيبي، عن أبيه، عن نافع، أنه قال: أدركت هؤلاء الأئمة الخمسة ([27])، وغيرهم ممن سمى فلم يحفظ أبي أسماءهم، قال نافع: فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد فتركته، حتى ألفت هذه القراءة في هذه الحروف ([28]).
3 - وكان علي بن حمزة الكسائي قد قرأ على حمزة، ونظر في وجوه القراءات، وكانت العربية علمه، وصناعته، واختار من قراءة حمزة، وقراءة غيره قراءة متوسطة، غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة ([29]).
4 - وأما البصرة، فقام بالقراءة بها بعد التابعين جماعة، منهم: أبو عمرو بن العلاء ...... قال أبو بكر: وكان مقدما في عصره، عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية، وكان مع علمه باللغة، وفقهه بالعربية، متمسكا بالآثار، لا يكاد يخالف في اختياره ما جاء عن الأئمة قبله ([30]).
5 - ... وحدثونا عن وهب بن جرير قال: قال لي شعبة: تمسك بقراءة أبي عمرو، فإنها ستصير للناس إسنادا. حدثني محمد بن عيسى بن حيان قال: حدثنا نصر بن علي قال: قال لي أبي: قال لي شعبة: انظر ما يقرأ به أبو عمرو مما يختار لنفسه فاكتبه، فإنه سيصير للناس إسنادا ([31]).
6 - ... وكان أبو عمرو حسن الاختيار، سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل ([32]).
وقد أثبت بعض المؤرخين أن هذا النهج في الاختيار بين القراءات كان منهج ابن مجاهد نفسه، فقد قرأ ابن مجاهد على قنبل المكي، لكنه انفرد عن قنبل بعشرة أحرف، لم يتابعه عليها ([33]).
ولعل هذا ما جعل بعض علماء القراءات يمنعون القراءة اعتمادا على القياس المطلق، الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا في الأداء ما يعتمد عليه، ولكنهم يسمحون للقراء النخبة بالقراءة بالقياس، متى توفرت متطلباته، فيسمح لهم بالرجوع إلى القياس عند عدم النص، وغموض وجه الأداء، وقد لا يكون قياسا "على الوجه الاصطلاحي، إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي، كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء، وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء، ونقل (كِتَابِيَهْ إِنِّي) وإدغام (مَالِيَهْ هَلَكَ) قياسا عليه، وكذلك قياس (قَالَ رَجُلَانِ) و (قَالَ رَجُلٌ) على (قَالَ رَبِّ) في الإدغام .... مما لا يخالف نصا، ولا يرد إجماعا، ولا أصلا، مع أنه قليل جدا" ([34]).
هذا .. مع إقرار كثير من المتأخرين أن "أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية؛ بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية، إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها، والمصير إليها" ([35]). في المقام نفسه يؤكد ابن الجزري أن "جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة ..... جمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأصول أصّلوها، وأركان فصّلوها، وهانحن ... نعول كما عولوا عليها" ([36])، وعلى الرغم من يقين ابن الجزري أن هذه الأصول مؤصّلة، وهذه الأركان مفصّلة على يد علماء القراءات، فإنه يعلن
¥