تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اجتهادات ابن مجاهد كانت مؤسسة على قاعدة أن ما رواه القراء من القراءات القرآنية يماثل ويماهي ما روي من الآثار الأخرى، "كالآثار التي رويت في الأحكام، منها المجتمع عليه، السائر المعروف، ومنها المتروك، المكروه عند الناس، المعيب من أخذ به، وإن كان قد روي، وحفظ، ومنها ما توهم فيه من رواه، فضيع روايته، ونسى سماعه؛ لطول عهده، فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه، وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك؛ بإصراره على لزومه، وتركه الانصراف عنه .... كذلك ما روى من الآثار في حروف القرآن، منها المعرب السائر الواضح، ومنها المعرب الواضح غير السائر، ومنها اللغة الشاذة القليلة، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب، غير أنه قد قرئ به، ومنها ما توهم فيه فغلط به، فهو لحن غير جائز عند من لا يبصر من العربية إلا اليسير، ومنها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير، وبكل قد جاءت الآثار في القراءات" ([58]).

هذا التأسيس الذي بنى عليه ابن مجاهد فكرة (السبعة) في القراءات القرآنية، والقائم على إمكانية نقد التراث، وإعادة النظر فيه، وإعمال الفكر فيه، قبولا وترجيحا وردا، تحول بعد مرور الزمن وتعاقب الأجيال إلى رؤى ممنوعة، وتحولت (السبعة) - قراء وقراءات- إلى مسلمات لا يجوز المساس بها، ولا إعادة النظر فيها، ولا نقدها؛ لأنها قد توقع في الكفر حسب أبي حيان ([59]).

إشكالية نقد القراءات اقترنت بالعلوم اللغوية عامة، وعلم النحو بشكل خاص، حتى إنها لم تقترن في علوم الفكر الإسلامي الأخرى كما اقترنت به، ولأسباب مختلفة وكثيرة شاعت كثير من الأفكار التي تقدم خدمات غير مباشرة لطائفة على حساب الأخرى، موظفين العاطفة الدينية في الانتماء لتيار دون آخر، وخاصة (القراءات القرآنية)، حيث ساد عند كثير من الباحثين والمتخصصين في العلوم اللغوية عامة، والنحوية خاصة - قديما وحديثا- أن البصريين وقفوا من القراءات موقفهم من سائر النصوص اللغوية، فأخضعوها لأصولهم وأقيستهم، فما وافق منها أقيستهم وأصولهم قبلوه، وما أباها رفضوا الاحتجاج به، ووصفوه بالشذوذ، أو القلة، أو الرداءة، أو ما شابه هذه المصطلحات الطبقية .. وأن الكوفيين قبلوا القراءات القرآنية كافة، واحتجوا بها، وعقدوا على ما جاء فيها كثيرا من أصولهم وأحكامهم؛ لأن منهجهم مبني على منهج القراء، الذي لا يقوم على (الأفشى) في اللغة، (والأقيس) في العربية، بل على (الأثبت) في الأثر والأصح في النقل ([60]).

هذا التصنيف يتخلف بدرجة كبيرة، ويسقط سقوطا مريعا عندما تظهر المقارنة بين سيبويه (شيخ البصريين)، والكسائي أو الفراء (شيخي الكوفيين) نتائج متباينة مع هذا التصنيف؛ حيث القطع والجزم بأنه "ليس في كتاب سيبويه تخطئة واحدة لقراءة من القراءات، مع كثرة ما استشهد به منها، وقد صرح بقبولها جميعا، مهما كانت شاذة على مقاييسه، إذ قال: إن القراءة لا تخالف؛ لأنها سنة" ([61])، أمّا الكسائي فيصنّف بأنه "هو الذي بدأ تخطئة القراء، إذ نرى الفراء يتوقف في كتابه (معاني القرآن) مرارا ليقول إن الكسائي كان لا يجيز القراءة بهذا الحرف أو ذاك" ([62])، والأمر نفسه مع الفراء؛ فقد صار من المؤكد أنه ردّ بعض القراءات، ورمى بعض القراء بالوهم، ورجح بعض القراءات على بعض، وفضّل قراءة على أخرى ([63]).

هذه المواقف المتباينة مع ما هو كالمتعارف عليه اليوم بين أكثر الباحثين، لا تغري بإصدار الأحكام القاضية بسطحية البحث النحوي التاريخي [النحوتاريخي] بقدر ما تلح على الباحثين بإعادة قراءة التراث النحوي، قراءة معاصرة، لا تنفصم عراها عن الدراسات التراثية، ولا تجترها اجترارا بسذاجة وظلامية؛ ذلك أن "التراث لا يوجد في ذاته، فالتراث هو قراءتنا له، هو موقفنا منه، هو توظيفنا له ... قد أتجاهل التراث أو أكرره حرفيا، أو أفسره أو استلهمه أو أهول من شأنه أو أهون منه، وقد أراه على هذا النحو أو ذاك. وفي أي موقف من المواقف يفقد التراث ماضيه - حتى ولو كررته حرفيا - أي يفقد حقيقته الذاتية المرتبطة بغير شك بسياقه الزمني التاريخي الاجتماعي الخاص، ويصبح جزءا من زمني، من سياق حاضري الخاص" ([64]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير