تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن القراءة الناضجة المثمرة للتراث لابد لها أن تقوم على أسس من الثقة بالحاضر، والإيمان بثراء الماضي وجدواه، وأن تتوسل بكل ما شأنه تأمين الطريق إلى الحقيقة دون انخداع أو انبهار، بعيدا عن الخطابية الساذجة، أو الشعاراتية العمياء، حتى يمكننا إزالة كل الأوهام الملتصقة بوجداننا، ونعيد اكتشاف تراثنا بأدواتنا الحالية، ولا نشعر بالخجل أو الحرج من مساءلة التراث، إذا ما توفرت لنا الأدلة والدواعي والأسباب لذلك، فإعادة قراءة التراث لا تعني - قطعا - أنه عدو لنا، أو أننا نقف منه موقفا معاديا، بل إن إعادة القراءة تتأسس على الحرص على تراثنا، وتنقيته من شوائب المراحل التاريخية التي مرت به، والتي لا يستطيع أحد إنكار حضورها في تكوين المشهد المعرفي للعقل الإسلامي الراهن.

(5)

لقد اكتسبت كثير من الآراء والأفكار ووجهات النظر قداسة حصينة؛ باعتبارها نصوصا تراثية، أدت في بعض الأحيان إلى الإلقاء بالمحاولين تجاوز هذه الحصانة إلى أرصفة التجهيل والتخطئة، والرمي بالجهالة، وربما وصلت في أزمنة الانحطاط إلى الإقصاء نهائيا خارج منظومة الأمة الإسلامية، باتهام هذه المحاولات النقدية وأصحابها بالزندقة تارة، وبالكفر تارات أخرى.

إعادة قراءة التراث تتأسس على الشعور بوجود أزمة معرفية كبيرة، وتتوسل الوعي بأهمية إعادة قراءة التراث، باعتباره الملهم الأول لإيجاد الحلول لكافة الأزمات التي تخص الوجدان الإنساني ومتطلباته المعرفية، كما أنه من المهم اليقين بأن هذه المراجعات النقدية للتراث لا تقتصر على التراث العربي والإسلامي وحده ولكنها حالة تاريخية مهمة تمر بها أمم الأرض جميعا، فالانفتاح الرهيب الذي يعيشه العالم الآن، سمح بتداول المعرفة الإنسانية بلا حدود، ولا شروط، فضلا عن الاختيار، وفض الخواتيم المحرمة، وانتهاك المقدسات التراثية، وأصبح العالم الإنساني جاهزا - تقريبا - لقراءة مغايرة للقراءات النمطية السائدة، وهو في هذه القراءات الجديدة إما مؤكد على السابق، وإما مضيف إليه، وإما مكتشف ضلالته وزيفه، ولكنه سوف يؤدي إلى "إنتاج معرفة جديدة بالنص المقروء سواء كان هذا النص نصا أدبيا أو فلسفيا أو دينيا أو نقديا أو سياسيا ... إلخ" ([65]).

وتأسيسا على أن الموقف من التراث لا يعني الموقف من الهوية، أو التاريخ، أو الماضي بكل أبعاده، وإنما هو - في الحقيقة - موقف من الواقع والحاضر، فإن هذه الدراسة / القراءة تحث على إعادة قراءة النصوص التي مارست (نقد القراءات)، خاصة في التراث النحوي، ووصلت إلى حد التصريح بالقول: "ولا نسلم تواتر القراءات" ([66])، و"أن دعوى التواتر باطلة" ([67]) .. تلك النصوص التي اعتبرها كثيرون نصوصا جريئة إلى حد أنها قد توقع المسلم في الكفر، ما أسهم في ظهور تيار محافظ، في رد فعل طبيعي عند المساس بالثوابت، أو ما حل محل الثوابت، وزيادة في التعبئة المعنوية أطلقت الألقاب المشجعة، والحماسية، كـ (حماة العقيدة) و (حماة القرآن) على كل من تصدى لناقدي القراءات، ونال منهم، وقد قام بهذا الدور كثيرون، تتبعوا كثيرا من المواقف النقدية الساخنة، وردوا عليها، بدافع حماية القرآن، والعقيدة، بالإضافة إلى حماية الأجيال اللاحقة من كتابات نقاد القراءات القرآنية؛ لأن هذه الكتابات - حسب أبي حيان - قد تقع بين يدي من لا يحسن هذا الفن؛ فيسيء ظنا بالقراءة وبقارئها، "فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك" ([68])؛ لأننا نتعبد بالقرآن، وفي كل الأحوال "لسنا متعبدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم" ([69]).

إشكالية (نقد القراءات) من أخطر إشكاليات التراث الإسلامي، وأشدها تعقيدا، ولذلك فإن الكتابة في هذا الموضوع لا يمكن لها أن تدعي تقديم الحلول الفاصلة والنهائية لتلك الإشكالية، ولا أن تطرح بدائل لعملية (النقد)، أو آلية (الدفاع)، ولكنها تثير الأسئلة من جديد، وليس بالضرورة أن تقدم الإجابات؛ لأن السؤال في حقيقته هو نوع من المعرفة، كما أن هذه الدراسة تنطلق من الإيمان بأن القراءة السلفية للتراث لا تقدم قراءة معاصرة، "وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث، هو: الفهم التراثي للتراث، التراث يحتويها، وهي لا تستطيع أن تحتويه، لأنها: التراث يكرر نفسه" ([70]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير