وقد أشار القرآن الكريم لهذه الظاهرة العجيبة حين تحدث عن داود عليه السلام: "ولقد ءاتينا داود منا فضلاً ياجبال أوبي معه والطير". والآية تصور من فضل اللّه على داود عليه السلام أنه بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات فاتصلت حقيقتها بحقيقته في تسبيح بارئها ورجّعت الجبال والطير معه، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز حين اتصلت كلها باللّه صلة واحدة؛ وتجاوب الكون كله مع ترانيم داود. وقد أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى هذه الظاهرة، حين سمع أبا موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف يستمع لقراءته ثم قال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود".
التزمين:
هو المرآة التي تعكس لنا عواطف المتكلم وانفعالاته ويعرف بأنه السرعة التي يتخذها المتكلم ويحسها السامع نحو الكلام المنطوق، سواء أكان كلمة أو جملة، ويمكن وصف هذه السرعة بأنها بطيئة أو سريعة أو متوسطة. وهو عنصر مهم في الأداء الذي يؤثر على فهم المسموع والإحساس بانفعالات المتكلم أو الحالة النفسية المصاحبة للنص.
ومن القراء الذين برعوا وأبدعوا واجادوا وحازوا قصب السبق في ربط الصوت بالدلالة والمعاني، بل جعلوا الصوت يرتبط ارتباطا وثيقا بالدلالة والمعاني، بأداء خارق خلاب، الشيخ مصطفى اسماعيل.
يستأسرك بدون عنف، ويجتذبك كالمغناطيس بصوت لطيف ناعم، فتشعر وانت تستمع إليه بارتجافة لذيذة كما يحدث عند مفاجأة سارة وهو يرنح أعطافك كالصهباء، فكأنك تستنشق عبير الزهر أو تستروح نفحات الرياض في مطلع الفجر.
صوته ينطوي على جمال لا يوصف يجعلك تشعر بالسرور يجلل نفسك و أنت تسمعه، وبالحزن يستولي على فؤادك، فيخبت لله ويخشع، فتلين لسماعه القلوب وتقشعر لصوته الأبدان، بل ويجعل الأنوار الإلهية تغمر قلبك وأنت تسمعه، فتتوق نفسك إلى مزيد من العبودية فيحرر روحك من قفص الجسد، ومن ثقلة اللحم والدم. صوته يجبرك على الانتباه والإصغاء ويحملك على الخشوع والإخبات. هو منحة من الأقدار حين لا تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسان.
المقرئ الشيخ مصطفى إسماعيل في ميزان التحليل الموسيقي
بطاقة تعريف:
ولد مصطفى إسماعيل في 17 يونيو 1905 بمحافظة الغربية بمصر في قرية ميت غزال قرب مدينة طنطا. والتحق بكتّاب القرية وتعلم القرآن والتجويد والحديث. وظهرت موهبته في التلاوة مبكرا، ثم التحق بالمعهد الأزهري في طنطا لدراسة أحكام القرآءات والتجويد والترتيل، وذاع صيته مبكرا حتى قبل أن يكمل دراسته في المعهد. وأصبح يقرأ في الاحتفالات الدينية من موالد وغيرها. وعلا شأنه حتى اختاره الملك فاروق قارئا للقصر الملكي. ونال شهرة واسعة داخل مصر وخارجها، وطاف معظم البلاد العربية سفيرا لكتاب الله، ونال كثيرا من أوسمة التقدير من الرؤساء المتعاقبين. وله ما لا يحصى من تسجيلات لكتاب الله قدرت ما بين 40 و50 ألف ساعة، المتوافر منها يقرب من 2000 ساعة فقط. ولكن يوجد كنز ثمين من تسجيلات الشيخ في أرشيف الإذاعة المصرية، مع ما يقارب 700 تسجيل خارجي من المساجد ومن قصر الملك فاروق. وتلك التسجيلات الخارجية هي التي تكشف العبقرية الحقيقية لمصطفى إسماعيل في الترتيل ومدرسته المستقلة وفنه العظيم وتجاوب المستمعين معه بالإعجاب والهتاف. على عكس تسجيلات الأستوديو "العادية ".
ولم يدرس الشيخ الموسيقى نظاميا، ولكنه أتقن الفن بالسماع، وبارتباطاته وصلاته مع كبار الموسيقيين في عصره. وقد توفي رحمه الله عام 1978 م وهو قارئ الجامع الأزهر.
في ميزان النقد الموسيقي:
* الشيخ درويش الحريري:
سمع في ليلة من الليالي الشيخ مصطفى اسماعيل الملحن القدير وعالم المقامات الشهير الشيخ درويش الحريري فسأله: من علمك كل هذه المقامات؟ فأجابه الشيخ: لقد التقطت أذناي كل ما سمعته طوال حياتي وتمثلته واستنبطت منه طريقتي في الأداء. فقال الشيخ الحريري: "إن فطرتك أقوى وأصح من كل الدراسات ولا يمكن لمعهد فني بأكمله أن يصل إلى ما وصلت إليه فطرتك"، وأضاف "هذه هبة الله تعالى".
* كمال النجمي:
أصدر المؤرخ والناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي كتابا خاصا عن الشيخ مصطفى إسماعيل تناول فيه صوت الشيخ وترتيله من زاوية موسيقية، نختار منه المقتطفات التالية:
¥