وكذلك علينا أن نفرق بين ما يصدر من بعض الدارسين من أخطاء أو اجتهادات، وبين الحكم على عقائدهم ومحاكمة نواياهم، إن لم يكن في تلك الأخطاء أو الاجتهادات إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإذا أخطأ الدكتور إبراهيم أنيس – رحمه الله – في مسألة الإعراب أو غيرها فإن ذلك لا يلغي كل ما قدمه في خدمة العربية، أو يجب الحكم على علم الأصوات بالبطلان لأنه أول من كتب فيه في العربية في العصر الحديث.
رابعاً: علم الأصوات لأهل القرآن علم يضر، والجهل به ينفع
هذا قول قاله الدكتور سليمان، وقال أيضا: "والانشغال بهذا العلم المزعوم – في نظري – مضيعة للوقت الذي نُسْأل عنه يوم القيامة"، ثم قال:" وأخلص إلى أن علم الأصوات الحديث الذي وضعه المستشرقون، وتلقاه عنهم وعربه تلاميذهم المخلصون ممن إلى الإسلام والعربية ينتمون ميدان كَثُرَتْ فيه ألاعيب السحرة ... ".
وهذه أحكام أطلقها الدكتور سليمان، ووصفها في آخر كلامه بالقول:" وهذه مجرد آراء شخصية لا تخلو من حماسة الشباب .. ".
وهي كما وصفها لا تخلو من حماسة الشباب، لكنها قبل ذلك تنبع من قناعات حول علم الأصوات، رسختها في نفسه تجربته الشخصية في البحث والقراءة والاطلاع، وهكذا حالنا جميعاً لكل واحد منا تجربته الخاصة في التلقي والبحث، تتشكل من خلالها مواقف وأفكار، ولا شك في أن الجو العام مشحون بالمواقف السلبية من علم الأصوات، وقد يؤثر ذلك على من لم يطلع على أصول هذا العلم ودقائقه، فيتخذ موقفاً سلبياً منه.
و ترسخت في نفسي من خلال تكويني العلمي وتجربتي في القراءة والبحث والتعليم قناعة تامة بأهمية علم الأصوات لمعلم التجويد ومعلمه، وضرورة معرفة أصول هذا العلم ودقائقه المتعلقة بجانب النطق في الأقل، وأنا أختلف مع أخي الدكتور سليمان في الأحكام التي أطلقها على الأصوات، ففي نظري علم الأصوات نافع لأهل القرآن، وليس الاشتغال فيه مضيعة للوقت، وليس فيه ألاعيب للسحرة أو غيرهم.
وأنا أعجب أن يكون ما قاله الدكتور سليمان يشكل قناعة لدى شريحة واسعة من المشتغلين بالقراءة والإقراء، وعدد من المشتغلين بعلم العربية، في الوقت الذي صار علم الأصوات اللغوية من العلوم الراسخة في الحضارة الإنسانية، وأحد أعمدة التقدم العلمي الحاصل في تعليم اللغات، والترجمة الفورية، والاتصالات، ومعالجة أمراض النطق والكلام، وغير ذلك من المجالات.
وأحسب أن تكلف القول لإثبات فائدة معرفة المشتغلين بعلم القراءة والتجويد لعلم الأصوات كمن يجتهد في إثبات بديهية من البديهيات، وعلى من يشك في ذلك أن يجرب القراءة والمتابعة والتفهم لمسائل علم الأصوات، ويتأمل في مقدار ما يمكن أن يستفيده من ذلك في معرفة حقائق الأصوات وصفاتها، وتفهم ظواهر النطق، وأحكام القراءة، وضبط مقادير الغنن والمدود وغيرها.
وأضيف فائدة أخرى وهي أن المعرفة بمبادئ علم الأصوات يكشف عن قيمة ما توصل إليه علماء العربية والتجويد وما قدموه في دراسة الأصوات بالملاحظة الذاتية، ويجعل للقراءة في كتبهم متعة علمية تملأ المرء فخراً وإجلالاً، مع كل ما حصل من تقدم في هذا الميدان.
والمشتغلون بعلم التجويد والقراءة اليوم مدعوون لأخذ زمام المبادرة لتملك الريادة في علم الأصوات، وللخروج من عقدة غربة هذا العلم، والعودة به إلى أصوله التي سبق إليها علماء السلف قبل أكثر من ألف عام، وللابتعاد من الشعور بوجود تناقض بين علم الأصوات وعلم التجويد الذي يصطنعه البعض في زماننا.
هذا ما تيسر لي الآن، وقد لا يجيب على جميع ما أثير من أسئلة وتساؤلات، ولكني آمل أن يكون مفيداً، والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
[ملاحظة: اشتغلت بكتابة هذه الصفحات في الصباح ثم طباعتها في المساء، وحين فتحت موقع ملتقى أهل التفسير لأضعها في مكانها وجدت أن كلاً من الأستاذين الفاضلين عمار الخطيب وعبد الحكيم عبد الرزاق قد كتب تعليقاً جديداً على الموضوع، وكل واحد منهما يحاول أن يوضح وجهة نظره التي سبق عرضها من قبل، ولم أجد ضرورة لإعادة النظر في ما كتبتُ، وآمل أن لا يطول الوقت حتى تنحل الإشكالات وتقل نقاط الاختلاف حول الموضوع أو تنتهي، إن شاء الله].
ـ[عمار الخطيب]ــــــــ[16 May 2008, 08:18 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
¥