علم الأصوات علم عظيم، لايقل أهمية عن النحو والصرف والدلالة.
بل هو أساسها، فلا تستطيع أن تبحث علما آخر دون الاستعانة به. فهو في العلوم اللغوية كعلم الحديث في العلوم الشرعية خادم لا مخدوم، لا يُستغنى عنه وقد يستقل بذاته.
إن هذا العلم الذي لم يعجبكم هو أعظم مفاخر العرب والمسلمين، والذي أدهش اللغويين الغربيين، وجعلهم يقرون - راغمة أنوفهم - للعرب بالسبق في علم الأصوات، هو أن الخليل - ومن بعده سيبيويه - تمكنا من وصف أصوات العربية وصفا دقيقا - وكانا مصيبين بنسبة 90% على الأقل، اعتمادا على الملاحظة الشخصية، في حين لم يتمكنوا هم من وصف أصوات اللاتينية - مثلا - إلا بالاستعانة بالوصف العربي، وأخيرا بأجهزة المختبر الصوتي، وهذا ما حملهم - منصفين وحاقدين - أن يرفعوا القبعة تحية للعرب. ويكفي أن تقرأ كتيب المستشرق الألماني شاده (علم الأصوات عند سيبيويه وعندنا) وقد ترجمه وعلق عليه د. حاتم الضامن.
وحتى هذه ال 10% لا نستطيع تخطيئها، بل الأولى أن نقول إن نطق الصوت اختلف من سيبويه إلى العصر العبيدي (الفاطمي) حيث ازدهر علم التجويد في مصر، وجرى توريث مدرسة القراءات المصرية، التي اعتمدها رواد الأصواتيين - بتعبير د. غانم - مقياسا للصواب والخطأ
والأولى أن نخطئ أنفسنا لا أن نخطئ سيبويه.
على أن بعض اللغويين العرب قد جانبه الصواب في ذلك؛ فادعى أن العرب استقوا ذلك من اليونان - كإبراهيم أنيس، أو من الهنود كأحمد مختار عمر. ويكفي أن نقول إن العرب هم أول من عرف وعرّف الجهر والهمس، والاحتكاك والانفجار وما بينهما.
وإذا كان علم النحو قد تأثر بالمنطق والفلسفة الإغريقيين، فإن علم الأصوات علم عربي من مبدئه إلى منتهاه. وهو أوثق العلوم اللغوية عرى، وأمتنها قواعد.
إن التصنيف في علم الأصوات بدأه د. إبراهيم أنيس في كتابه (الأصوات اللغوية) وقد صدرت طبعته الأولى قبل ما يزيد على نصف القرن. وفيه يصف الأصوات العربية وفق مجيدي القراء بتعبيره هو، وهؤلاء ليسوا مقياسا صحيحا؛ لأنهم مخالفون لوصف سيبويه. فتخطتهم أولى وأمثل من تخطيء سيبويه، الذي ليس بينه وبين الإسلام إلا قرنان أو أقل، وهذا مقتضى المنهج العلمي.
يلي ذلك كتاب د. كمال بشر (علم الأصوات) وهو أضخم ما صنف فيها. وقد صدرت طبعته الأولى - كما يذكر في مقدمته - في سبعينيات القرن الماضي. وكل من كتب في علم الأصوات - بما فيهم د. غانم - فإنما اعتمد نظرياتهما ومقولاتهما، وأخذ منهما (أنيس وبشر) معظم الآراء المبثوثة في كتب الأصوات. وكل عمل رائ لابد أن يتخلله بعض الهنات، التي لا تقلل من شأنه وعظمته. وقد استدرك عليهما الجيل التالي من تلامذتهما بعض تلك التقريرات، كما فعل د. رمضان في كتابه (المدخل إلى علم اللغة)
ود. أحمد مختار عمر في كتابه (دراسة الصوت اللغوي)
والواقع أن جميع المصنفين في هذا الفن من شاميين أو عراقيين - كالدكتور غانم - أو خليجيين أو يمنيين أو مغاربة أو غيرهم، تأثروا بنظريات الأستاذين الرائدين (أنيس وبشر) وقد كتب للهجة المصرية الانتشار - بسبب الدراما - فأصبحت مقياسا للأصوات؛ فلذلك قيل: الضاد كما ينطقها المصريون، وهذا مخالف تماما لوصف سيبويه لها باعتراف اللغويين المصريين أنفسهم.
وكان الوجه أن تعتمد لهجة اليمن لا مصر لسببين:
1 - أن اليمن بسبب بعدها الجغرافي لم تتأثر بغيرها من الحضارات الغازية، فلم تتعرض للغزو بعد الإسلام، ولم تصل إليها براثن المغول ولا الأتراك. ولذلك ظلت مدرسة القراءت فيها غضة طرية، تنطق الأصوات كما كان ينطقها الصحابة. وهذا ليس في الجانب الصوتي فقط، بل في الجانب الدلالي. ولكاتب هذه السطور بحث منشور بعضه في الملتقى عنوانه الألفاظ اليمنية في القرآن الكريم.
2 - أن اليمن هو البلد الوحيد الذي كانت الهجرات السامية منه وليس إليه؛ فظل هو الأصل، وغيره فرع. وتجد بقايا المخارج الصحيحة للأصوات عند أصحاب الأصول اليمنية، كصعيد مصر والمغرب بدوله الخمس، ونحن نعتبر الخليج - بدوله الست - الامتداد الجغرافي والتاريخي لليمن.
قال د/ جبل: القاف الحقيقية هي قاف أهل الصعيد
.
صدق، ومعروف أن أصول الصعيد من اليمن، فكان الأولى أن يقال هي قاف اليمن.
ـ[عبد الحكيم عبد الرازق]ــــــــ[12 Nov 2010, 01:56 ص]ـ
السلام عليكم
¥