تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولم يسارع المشتغلون بعلم الأصوات إلى تخطئة سيبويه في وصفه الطاء بالجهر، وإنما تساءلوا: هل مقياس سيبويه للجهر هو عين مقياسهم، ورجح أكثرهم أنه يريد بالمجهور ما أراد به المحدثون، بدليل إشارته إلى أن المجهور يُشْرَبُ صوت الصدر، ولم يكن سيبويه على علم بالوترين الصوتيين، لكنه أحس بأثرهما على الأصوات، ولا يخفى أن صياغته لتعريف الجهر في باب الإدغام خلت من الإشارة إلى صوت الصدر الذي صرح به في باب الوقف، ونقله عنه تلميذه الأخفش حين سأله عن الفرق بين المجهور والمهموس، كما هو مبين في شرح السيرافي للكتاب.

وبناء على ذلك بحث المشتغلون بعلم الأصوات في السبب الذي جعل سيبويه يصف الطاء والقاف والهمزة بالجهر، وذكر بعضهم ثلاثة احتمالات لذلك، الأول: أن الطاء كان مجهوراً في زمن سيبويه، ثم تحول مهموساً في وقت لاحق، والثاني: أن سيبويه وصف صورة لهجية لنطق الطاء كانت مجهورة في زمانه. والثالث: أن سيبويه أخطأ في وصف الطاء بالجهر، وأنه كان ولا يزاال مهموساً.

وإذا كان الأمر كذلك فهل يصح أن يقال: إن المشتغلين بعلم الأصوات خَطَّؤُوا سيبويه، ومن تابعه من علماء العربية والتجويد، الجواب: اللهم لا، ثم هل يصح أن يقال: إنهم خَطَّؤُوا القراء، الجواب: لا أيضاً، فالجميع يسمع تلاوة القراء أهل الرواية والأداء ينطقون الطاء، ويتخذها مقياساً لأصوات العربية الفصحى، لكن أهل الأصوات يقولون إن الطاء في الأداء اليوم صوت مهموس، والسائرون على خطى سيبويه اليوم يقولون إنه مجهور، تقليداً لسيبويه، فأهل الأصوات لا ينكرون نطق القراء لصوت الطاء، ولا يَدْعُون إلى تغييره، وإنما ناقشوا قضية أثارها وصف لسيبويه لهذا الصوت، وأرجو أن يكون إخواننا المحاورون لنا قد وعوا أبعاد القضية، وأن يكفوا عن ترديد تهمة تخطئة المشتغلين بالأصوات للقراء، ولا يُغَيِّرُ من الموضوع شيئاً القول إن أول من ذكر هذه القضية هو المستشرق الألماني برجستراسر، فلولا أن ما ذكره كان صواباً لما وجد المتابعة من الدارسين العرب اللاحقين.

وكان سيبويه قد قال وهو يتحدث عن صفة الإطباق: (ولولا الإطباق لصارت الطاء دالاً) وذلك يعني أن الطاء صوت مجهور عنده، وأنا أدعو المحاورين إلى أن يجردوا الطاء من صفة الإطباق وينظروا إلى الصوت الذي ستؤول إليه: هل هو الدال أو التاء؟ إذا: قالوا الدال، قلنا: لهم جردوا صفة الإطباق عن الضاد وستجدون أنها ستؤول إلى الدال، وتكونون قد أخطأتم في الجواب، فإن قالوا: إذا جردنا الإطباق عن الطاء التي ينطقها القراء اليوم آلت إلى التاء، قلنا: قد وافقتهم أهل الأصوات القائلين إن الطاء مهموسة! وهل ستصفون أنفسكم حينئذ بأنكم قد خَطَّأتم القراء؟ وإذا أبيتم إلا التمسك بقولكم القديم المتناقض فلكم ذلك، لكن لا تلزموا غيركم به.

وكنت قد استشهدت في بعض ما كتبتُ سابقاً عن الطاء والضاد بنطق بعض أهل اليمن للطاء مجهورة، مثل نطق قراء القرآن من أهل مصر والشام للضاد، ولم أقصد إلا إلى لفت الأنظار إلى أن ما قاله سيبويه عن الطاء ينطبق على هذا النطق، وليس دعوة إلى تغيير النطق، وقد أكد الإخوة المحاورون من اليمن أن ذلك النطق شائع في منطقة صنعاء.

وإذا فرغنا من قضية الطاء، واتفقنا على أن أهل الأصوات لم يُخَطِئُوا القراء وإنما اختلفوا مع من وصفها بالجهر من علماء السلف، وذلك بناء على معطيات علم الأصوات اليوم، فإنه يمكن تناول قضية القاف ثم الهمزة والضاد.

القاف: صوت أقصى حنكي، شديد، مستعل، وَصَفَهُ سيبويه بالجهر، وتابعه على ذلك الوصف علماء العربية والتجويد المتقدمون، ووصفه أهل الأصوات بأنه صوت مهموس، بناء على فقدان اهتزاز الوترين الصوتيين عند النطق به، وترد الاحتمالات الثلاث التي أشرت إليها عند الحديث عن تفسير وصف سيبويه الطاء بالجهر، واستبعدت في أبحاثي السابقة أن يكون سيبويه حين وصف القاف بالجهر أنه كان يصف صوتاً آخر غير القاف التي ينطقها مجيدو القراءة في زماننا، ولا أجد ضرورة للإطالة في الحديث عن القاف إذا كانت معالجتي لقضية الطاء المتقدمة قد وَفَّتِ الموضوع حقه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير