وقد وقفت على قوله في "كتاب التذكرة" فوجدته يقول بعد أن ساق قول نافع الآنف الذكر: "قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سهل جزل لا نمضغ ولا نلوك، ننبر ولا ننتهر، ونسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها" ـ قال أبو الحسن:
"فهذا يؤيد لك ما عرفتك من ترك الإفراط في المد والإسراف فيه، وأن نافعا ـ رحمه الله ـ لم يكن يرى إشباع المد في حروف المد واللين بعد الهمزة كقوله: "ءادم" و"ءاخر" ... وما أشبه هذا كما يذهب إليه بعض منتحلي قراءة ورش، لأن إشباع المد في هذا كله مضغ ولوك وانتهار وتشديد، وليس بأفصح اللغات وأمضاها، وقد نفى نافع أن تكون قراءته كذلك، فدل هذا منه على أن قراءته في هذه الحروف الواقعة بعد الهمزة إنما كانت بمدهن قليلا بمقدار ما يتبين ما فيهن من المد واللين لا غير كسائر القراء، لأن ذلك هو أفصح اللغات فيهن وأمضاها، وبه يحصل التسهيل وينتفي الانتهار والتشديد، هذا مع ما يؤدي إشباع المد ههنا في كثير منه إلى إحالة المعنى بخروج اللفظ بذلك من الخبر إلى الاستخبار .. " ().
ذلك مذهب أبي الحسن بن غلبون شيخ أبي عمرو الداني الذي ذهب إليه في قصر هذا الضرب وإنكار زيادة التمكين فيه، وهو مذهب إذا تأملناه وجدناه ينسجم مع طريقة المدرسة الشامية في رواية ورش، فإنها كما تقدم قد اتجهت في أصول الأزرق اتجاها وسطا بين مذاهب المصريين والعراقيين، وهم في هذا الضرب من المد يوافقون مدرسة العراق وقد فصل أبو جعفر بن الباذش مذاهبهم في ذلك. وذكر أن "منهم من ترك زيادة المد في ذلك البتة ـ يعني في هذا القسم ـ إما منكرا لظاهر الرواية أو متأولا لها، وإما مختارا لما الرواية عنده خلافه" قال:
"فحكى أبو الحسن بن كرز عن أبي القاسم بن عبد الوهاب عن الأهوازي عن أبي بكر الشذائي أنه يكره المد في "ءامن" و"ءادم" ونحوه من المفتوح، لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، ولا يكره ذلك في "ايمان" و"أوتوا".
قال: "وكان أبو الحسن الأنطاكي () ينكر زيادة المد في الباب كله، وعلى ذلك كان شيخه إبراهيم بن عبد الرزاق وجماعة من نظرائه.
"وإلى إنكار ذلك ذهبت جماعة من المتأخرين منهم طاهر بن غلبون، واعتمدوا في علة إنكار ذلك على التباس الخبر بالاستفهام".
"وقد وضع أبو محمد مكي كتابا يؤيد فيه قول المصريين، وكذلك أبو عبد الله بن سفيان وضع كتابا على الأنطاكي خاصة، إلا انه تعدى فيه الرد عليه إلى التحامل والجفاء" ().
وقد أفضنا في عرض اختلافهم في هذه المسألة في تراجم كل من ابن سفيان وأبي الحسن علي بن محمد بن بشر الأنطاكي فيما تقدم، وذكرنا لمكي بن أبي طالب في ذلك عدة مؤلفات ينتصر فيها لمذهب المصريين ونقل القيروانيين، ومن ذلك رسالته في "تمكين المد في آمن وآدم ونحوهما" وقد عرضنا في ترجمته أهم محتوياتها ورده بصفة خاصة على من منعوا المد محتجين بالخوف من التباس الخبر بالاستفهام كما ذكر ابن غلبون والأنطاكي ومشيخة الشاميين.
ولم يكن أبو عمرو الداني أيضا ـ وهو من تلاميذ طاهر ابن غلبون ـ مطمئنا إلى زيادة التمكين في هذا الضرب، وإن كان لم يصرح بإنكار ذلك، وهو ما استفاده أبو جعفر بن الباذش من نصوصه في كتبه فقال في الإقناع:
"وكان أبو عمرو عثمان بن سعيد يذهب إلى أن ما جاء عن أهل مصر ليس فيه دليل على زيادة المد في هذا، الأصل وتأول ما ورد عنهم على ما قد ذكروه في كتبهم" ().
على أن أقوال أبي عمرو المذكور تدل على انه كان يجنح إلى التوسط، وهو ما يستفاد من قوله في "التيسير" "فإن أهل الأداء من مشيخة المصريين الآخذين برواية أبي يعقوب عن ورش يزيدون في تمكين حروف المد واللين زيادة متوسطة على مقدار التحقيق" ().
وأما كلام أبي عمرو في "جامع البيان" ففيه نوع من الإشكال لأنه ناظر بين ما يمده ورش مما تقدم فيه الهمز على حرف المد وبين ما تأخر فيه، وذلك معناه أنه يأخذ في الضربين بمقدار واحد وهو الإشباع.
قال في "جامع البيان" فصل، وإذا تقدمت الهمزات حروف المد واللين الثلاثة نحو "قولوا ءامنا" "وءاتوا" و"آدم" و"ءازر" و"أن تبوءا" و"جاءانا" و"ايمانكم"و"لإيلاف قريش إيلافهم ... فلا خلاف في تمكينهن على مقدار ما فيهن من المد الذي هو صيغتهن، ومقداره مقدار حرف واحد: ألف وياء وواو من غير زيادة، إلا ما اختلف فيه عن ورش.
¥