وهكذا انتقل بنا ما حكاه ابن الباذش إلى أفق آخر غير ما كنا فيه، أعني إلى الوقوف على مذهبين في هذا الضرب كلاهما يذهب إلى الإشباع فيه، إلا أن المذهب الأول ـ وهو مذهب المغاربة ـ يذهب إلى "المد الطويل المفرط"، وهم يفضلونه على ما تأخر فيه السبب.
ومذهب ثان هو أيضا مذهب الإشباع إلا أنه ينحو نحو التسوية بين المدين الناشئين عن الهمز تقدم او تأخر.
ومال ابن الباذش بعد استعراض هذه المذاهب إلى المذهب الثاني حيث قال:
"والظاهر أن زيادة المد ثابتة عن أهل مصر على خلاف ما سواهم عليه من ترك الزيادة، والذي أختاره الزيادة في مد ذلك وإشباعه من غير إفراط ولا خروج عن حد كلام العرب، فأتبع القوم على ما رووا عن صاحبهم، ويكون ذلك أعون على التمطيط والتجويد الذي نلتزمه، ولا أخرج مع ذلك عن الاستناد إلى علة مجوزة لذلك .. " ().
ترجيح القيجاطي لمذهب القائلين بالإشباع:
وقد رجح الإمام أبو عبد الله القيجاطي مذهب القائلين بالإشباع واحتج له فقال:
"فإن شيوخ المصريين الآخذين برواية أبي يعقوب جاءت الرواية عنهم نصا وأداء بمد هذا النوع، فاختلف المتأخرون في قبول الرواية وحملها على ظاهرها، وفي تأويلها لمخالفتها لسائر أئمة القراء، إذ لم يات ذلك عن أحد منهم.
"فالذي عليه جمهور المتأخرين حمل الرواية على ظاهرها، وحجتهم في ذلك أن رواية ورش تقتضي التحقيق والتمطيط وأنه متى وجد السبيل إلى تمطيط حروف المد لم يعدل عن ذلك إلى غيره، ألا ترى أنه يمدها مع السواكن ومع الهمزات في الاتصال والانفصال، ويمد حروف اللين مع الهمزات في نحو "شيء" و"سوءّ" و"سوءة" وكهيئة"، ويخالف في ذلك سائر القراء، فظاهر أمره أن يجري حروف المد وحروف اللين مع الهمزات مجرى واحدا، فلا يبعد أن يجري حروف المد إذا تقدمتها الهمزات مجراها إذا تأخرت عنها، ويخالف القراء في ذلك كما خالفهم في حروف اللين".
قال القيجاطي:"وأنكر طائفة من المتأخرين هذا الرأي ونفوا ظاهر الرواية عن نافع، وقالوا بعد هذا: "المد في هذا النوع من اختيار ورش خالف فيه نافعا، لأنه قد كان يخالفه في أمور غير هذا".
وقال الآخرون: إنما كانت المشيخة من المصريين يفرطون في هذا النوع تدريبا للمبتدئين على جهة الرياضة، وإذا كان الأمر على هذا فليس المد من اختيار نافع إذن ولا من رواية ورش عنه".
قال المنتوري: "وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي ـ رضي الله عنه ـ يأخذ لورش من طريق الداني بالمد المشبع كالمد مع الهمزات إذا تأخرن، وبذلك قرأت عليه وبه آخذ، فقلت له: "تأخذ لورش من طريق الداني بالمد المشبع وهو قد أنكره ورد على من أخذ به؟ فقال لي:
"روى لنا الداني المد عن ورش، وظاهره الإشباع، وتأوله بزيادة ـ قال في بعض كتبه ـ يسيرة، وقال في آخر: متوسطة على مذهبه في التحقيق، فنحن نأخذ بروايته لا بتأويله، ولأن تأويله إخراج للرواية عن ظاهرها ومخالف لما حملها عليه غيره من المصنفين".
قال المنتوري: "واعلم أن المقرئ أبا إسحاق بن عبد الملك سبق شيخنا ـ رحمه الله ـ فأمر في رجزه الذي نظمه في رواية ورش من طريق الداني بإشباع المد لورش في "ءامن" و"بابه" ().
وهكذا نجد أن مذهب الإشباع في هذا النوع أوسع جمهورا عند المتأخرين من أئمة الأداء في المدرسة المغربية. ويليه عندهم مذهب التوسط وهو ما يستفاد ـ كما قدمنا من أقوال أبي عمرو في كتبه ـ.
توهين مذهب الإفراط:
وأما مذهب الإفراط الذي ذكر ابن الباذش أنه قرأ به على غير واحد من شيوخ المغاربة ورآهم يفضلونه فقال الإمام المنتوري متعقبا له في ذلك: فلا يؤخذ بهذا، لأن الداني قد منع في "كتاب تقدير المد بالحروف" أن تكون الزيادة فرق ألفين ويائين وواوين حسبما تقدم ذكره" ().
قلت: وهو مقتضى ما نقلناه آنفا من مذهب ابن الطفيل في شرح الحصرية حيث قدر زيادة ورش في تمكين المد عند الإشباع بأنها "تضعيف مد صيغة الحرف مثلين"، وذلك معناه ست حركات أو ثلاث ألفات.
¥