تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أريد أن أتعرّض من خلال هذا الجواب العلميّ إلى بعض الجزئيات التي هي في نظري ذات أهمّيّة عظيمة والتي بها قد تنحلّ بعض ما يتخبّط فيه مشايخنا في التوفيق بين التلقي والنصّ عند التعارض.

الجزئية الأولى: قول شيخنا: " لأنّ القرءان محفوظ بالتلقي "

التعليق: إنّ الله حفظ القرءان كذلك بالنصوص المتضمنّة لما تلقاه أئمّتنا القدامى بأسانيدهم الصحيحة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ بل إنّ أصل هذه النصوص هو التلقي أي هي عبارة عن تُرجمان لما قرأه أئمّتنا أداءً عن مشايخهم. بل إنّ تدوينهم لتلك النصوص كان لسبب صيانة القرءان من اللحن الذي اعترى العرب أنذاك لا سيما عند دخول الأعاجم في الإسلام، ولذلك اشتكى أئمّتنا كمكي القيسي والقرطبي وغيرهما قلّة المهرة المتقنين من أهل الأداء، وهذا الذي حملهم على التدوين، ولو كانت المشافهة لوحدها ضامنة لحفظ القرءان من اللحن لما لجأ هؤلاء إلى التدوين.

الجزئية الثانية: هو اقتصار اصطلاح الرواية على التلقي وكأنّ كلّ ما يُتلقى اليوم من المشايخ يُعدّ من رواية وهذا فيه النظرلوجود بعض الكيفيّات الأدائية التي نسمعها اليوم لم تثبت بالنصّ ولم يُنقل أدائها في الكتب ولم يثبت الخلاف فيها عند القدامى فهي دخلية على الرواية. والرواية تُعرف بنصوص المتقدمين المتضمنة لها ممن تقدّم عن طبقة الداني ومكي القيسي وتُعرف أيضاً بالأداء المُدوّن من طرف جهابذة قرون التدوين أي القرن الخامس والسادس والسابع إلى وقت ابن الجزريّ. ودليلي في ذلك ما ثبت في الأربع الزهر من إثباب البسملة وتركها فهي وإن ثبتت عن بعض أهل الأداء إلاّ أنّ أئمّتنا صرّحوا بأنّها لم تثبت رواية وإنّما هو استحباب لبعض الأئمّة، لذا قال الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى: وبعضهم في الأربع الزهر بسملا ...... لهم دون نصّ" أقول فكان عدم ثبوت الوجه رواية لأجل افتقاره للنصّ. وقد نقلت أقوالاً في بحث بعنوان: "الخلاف عند علماء التجويد والقراءات " لمكي القيسي يُصرّح بأنّ الوجه الثابب بالنصّ أقوى من الذي لم يثبت بالنصّ. ومن اطلع على كتاب جامع البيان للداني والنشر لابن الجزري يدرك أنّ منهجهما يتمثّل في نقل الخلاف في المسألة إن وُجد، ثمّ نقل النصوص الثابتة لكلّ وجه ثمّ التعريج في الأخير على التلقي فيقولون في آخر المطاف " وبه قرأت". فيبنون المسألة على النص أوّلاً ثمّ يُعرّجون على التلقي، وهنا يظهر أنّ ثبوت الوجه بالنصّ يدلّ على ثبوته رواية بالضرورة بخلاف ما إذا ثبت الوجه بالأداء دون النصّ فقد يكون اصله استحباب واجتهاد دخيل على الرواية كما رأينا في مسألة الأربع الزهر.

وقد استدلّ إمامنا الشاطبي على ضعف وجه ترقيق الراء في {مريم} و {قرية} بعدم وجود نصّ وثيق في ذلك حين: " وما بعده كسرٌ أو اليا ..... فمالهم بترقيقه نصّ وثيق فيمثلا" ومعناه أنّه لم يثبت الوجه بالرواية وإن ثبت فهو انفرادٌ من غير اشتهار ولا استفاضة عند أهل الأداء مما يوجب ردّ الرواية. فنلاحظ أنّ الرواية لها علاقة وثيقة بالنصّ خلافاً لمجرّد التلقي الذي لا يعضده أيّ نصّ معتبر.

فإن تقرّر أنّ مجرّد تلقي الوجه من الشيخ لا يستلزم ثبوته رواية وأنّ ثبوته بالنصّ يستلزمه، فليس من الصعوبة إذن أن نخطأ ما هو عليه القراء اليوم بما في الكتب.

الجزئية الثالثة:، قول شيخنا: " فقد يكون الخطأ ما في الكتاب وليس الأداء، والأمر محتمل "

أقول: أطلب من مشايخنا الفضلاء أن يسهروا وأن يكثّفوا جهودهم للفصل في هذه المسائل المهمّة وألاّ يتركوها في مجالها الواسع محمتل للكثير من الأراء المسببة في النزاع والخلاف. وأريد لفت اتنباههم على ضرورة تأصيل القواعد في التعامل مع مصادر علم التجويد والقراءات بحصر المصادر أوّلاً ثمّ التوفيق بينها عند التعارض. وهذا أولى في نظري من البقاء في الاحتمال الذي لا يُفضي إلى أيّ ثمرة عملية.

الجزئية الرابعة: هو التباس الوسيلة بالغاية أي أنّ الكثير من أهل العلم يظنّون أنّ التلقيّ في حدّ ذاته هو الغاية مع أنّه مجرّد وسيلة لقراءة القرءان قراءة صحيحة قريبة من قراءة أهل القرون المشهود لها بالخيرية.

فالغاية هو قراءة القرءان قراءة صحيحة سليمة، والوسيلة هو التلقّي من أفواه المشايخ، إلاّ أنّ لتلك الوسيلة ضوابط وقواعد لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار للوصول إلى الغاية ومن تلك الضوابط توثيق التلقّي بالنصوص والأداء المدوّن في عصر التدوين مما شاع وذاع وتلقته الأمّة بالقبول حتّى يكتسب التلقّي حجيّته القاطعة.

الجزئية الخامسة: أنّ التلقّي يفسّر النصّ من الناحية العملية والتطبيقية كما قال شيخ قراء دمشق الشيخ كريم راجح حفظه الله تعالى وهذا كلام صحيح إذ لا يمكن الإتيان بالإمالة على وجهها الصحيح إلاّ بالتلقي. لذا فالتلقي مفسّر للنصّ من حيث الكيفية ولا يمكن بأيّ حال أن يكون معارضاً له.

فنخلص مما تقدّم أنّ:

- التلقّي هو مجرّد وسيلة وليس حجّة في ذاته إلاّ بالضوابط التي وضعها أئمّتنا عليهم رحمة الله تعالى

- بالتلقي تتبيّن الكيفية المقروء بها على الوجه الصحيح ويفسّر مضمون ومقتضى النص الوارد في الباب

- حجيّة التلقي لا بدّ أن تخضع لشروط وضوابط كما أسلفت

وليس هدفي ممّا ذكرت مجرّد الاعتراض على شيخنا بالعكس، فإنّي أغتنم فرصتي هذه لأدفع شيخنا إلى الخوض في عمق هذه المسائل لأهمّيّتها عندي من جهة و لتعمّ الفائدة بإذن الله تعالى.

أسأل الله تعالى أن يحفظ شيخنا العلامة غانم قدوري الحمد من كلّ مكروه وأن يوفّقه لما فيه الخير والصلاح وأي يرفعه في الدرجات العلا آمين آمين آمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير