وينبغي لي قارئ القرآن أيضا أن يكون لله حامداً، ولنعمه شاكراً وله ذاكراً، وعليه متوكلاً وبه مستعينا، وإليه راغبا وبه معتصما، وللموت ذاكرا وله مستعدا، وينبغي له أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربه، ويكون الخوفُ في صحته أغلب عليه؛ إذ لا يعْلم بما يُختَم له، ويكون الرجاء عند حضور منيَّته أقوى منه في نفسه –لحسن الظن بالله- وقرب منيَّته منه، وينبغي له أن يكون عالماً بأهل زمانه، متحفِّظا من شيطانه، ساعياً في خلاص نفسه ونجاة مُهجتِه، مُقدِّما بين يديه ما يقدر عليه من عَرَضِ دنياه، مجاهداً لنفسه في ذلك ما استطاع، وينبغي له أن يكون أهمَّ أموره عنده الورع في دينه واستعمال تقوى الله ومراقبته فيما أمر به ونهاه عنه ([27])
-البعد عن الحسد والغلّ: فعن عبد الله بن عمرو قال: من جمع القرآن فقد حُمِّل أمرا عظيما، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لصاحب القرآن أن يحسد فيمن يحسد، ولا يجهل فيمن يجهل، وفي جوفه كلام الله عز وجل ([28]).
فينبغي له أن لا يحبس في نفسه غلاًّ لمسلم، وأن يعفو عمّن ظلمه، ويصل من قطعه ويعطي من حرمه، وأن يأخذ بالفضل في أموره إذ لا منزلة فوق منزلته ([29])
-التحلى بفضائل الأعمال: فروي عبد الله بن مسعود أنه قال: ينبغي لصاحب القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبوَرَعه إذا الناس يَخلطون، وبتواَضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون ([30]).
وعن الفضيل بن عياض-رحمه الله تعالى- قال: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغوا، ولا يسهو مع من يسهوا ولا يلهو مع من يلهوا، وقال إنما أنزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملا ([31])
وعن الحسن بن علي قال: إنَّ من كان من قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتبدرونها بالليل ويتفقدونها في النهار ([32]).
-التباكي والخشوع واجتناب الألحان المطَرِّبة: وإذا قرأ القارئ القرآن فليستعمل عند قراءته الخشية والتباكي ([33]) والتفهم لما يتلوه، -وأحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله-، وليزينه بصوته الحسن الذي خصه الله عز وجل به، ووهبه له، وليجتنب -عند ذلك- الألحان المطرِّبة ([34])، والأصوات المستعملة، والنغمات الملهية، فإن ذلك مكروه عند العلماء قديما وحديثا ([35]).
-أن يُحْسِنَ الأدب مع شيخه: قال الإمام ابن جبارة الهذلي (ت465هـ) ([36]): واعلم أنه يجب على القارئ أن يحسن الأدب مع المقرئ فلا يتعنته في السؤال، فإن علم أنه يعلم ما يسأله عنه فلا بأس بذلك، ولا يذكرن غيره ممن يعانده بين يديه ولا يذكرن أحداً إلا بخير، ويشتغل بالتعليم والتعلّم والتوقير والتفهيم، ليضع الله له البركة فيما علم وإن قلَّ، ولا يطلبن على شيخه الزلل، وليكن القارئ فطنا والأولى به أن لا يختلف إلى غير من قرأ عليه تبجيلا لا وجوباً، ومن لم يعظِّم أستاذه لم ينتفع بعلمه ([37]).
وقال الإمام النووي-رحمه الله-: وعليه -أي قارئ القرآن- أن ينظر معلِّمه بعين الاحترام، ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على طبقته، فإنه أقرب إلى الانتفاع به، وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلّمه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة علمه عني وقال الربيع صاحب الشافعي -رحمهما الله- ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي هيبة له ([38]).
وعرض عبد الله بن مسعود على رسول الله r حينما طلب منه الرسول r أن يقرأ من أول سورة النساء فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك؟ فقال r : إني أحبُّ أن أسمعه من غيري، فقرأ عليه من أول السورة حتى بلغ قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)، قال: حسبك قال ابن مسعود فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ([39]).
قال الإمام أبو عمرو الداني (ت444هـ): وفي هذا الخبر الثابت المخرج في الصحيح سنن كثيرة يجب على أهل القرآن استعمالها ويلزمهم رعايتها منها:
¥