جنّي:"قال أبو علي الفَارِسيّ: ومِمَّا يَذْكُر ذلك أنَّ العَرَبَ اشْتَقَّت مِن الأَعْجَمِيّ النَّكِرَة كما تَشْتَقُ من أُصُول كَلامِها, قال رُؤْبَة (145هـ): ()
هل يَنْفَعنِّي حَلِفٌ سِخْتِيتُ
قال السِّخْتِيتُ من السُّخْت، كِزِحْلِيل من الزَحْل, وحَكَى لنا أبو عليّ عن ابن الأعرابي أَظنه قال: دَرْهَمت الخَبَّازَى, أَي صارت كالدَّرَهِم, وأُشْتُقَّ من الدِّرْهَم وهو اسم أعْجَمِيّ, وحكى أبو زيد: رَجُل مُدَرْهِم (). وبالمِثْل اشْتُقَّ العَرَبُ من الِّلجَام وهو اسم مُعَرَّب () فعلاً فَقَالُوا: أَلْجَمَ فُلانٌ الفُرْس، واشْتَقُّوا منه كذلك وصْفَاً فَقَالُوا الفُرْس مُلْجَمٌ، وتَصَرَّفوا فيه دلالياً، فاستعملوه استعمالاً مَجَازيَّاً، فَقَالُوا أَلْجَمَ فُلانٌ فُلانَاً، إذا مَنَعَه من الكلام.
ومن المُحْدَثِين من أيَّد الاشْتِقَاق من المُعَرَّب يقول د. رمضان عبد التّواب: "وتُعامِلُ العَرَبُ الَّلفْظ مُعَامَلَةَ العَرَبيِّ في الاشْتِقَاق منه، وضَرَبَ مَثَلاً بكلمة لِجَام السَّابقَة" (). ولا يَعْقِل أنْ يكون العَرَب قد اشْتَقُّوا كل ذلك من مَواد الأعجَميَّة قبل أنْ يُعَرِّبوها "ولما كان تَعْرِيب الاسم سابقاً بِطَبْعه اشتقاق الأَفْعَال والمَصَادِر والمُشْتَقَّات منه، دلَّ ذلك دلالةً قَطْعِيَّة على أنَّ العَرَبَ اشْتَقُّوا من أسماء الأَعْيان، وعلى أنَّهم إذا عَرَّبُوا اسماً صَبَغُوه بصِبْغَة العَرَبِيَّة، ومنها الاشْتِقَاق" ().
وقد خالفهم الجَواليقيّ مُنكِراً جوازَ الاشْتِقَاق من الاسم الأَعْجَمِيّ، قال: " ففي معرفة ذلك فائدةٌ جليلةٌ، وهي أنْ يَحْتَرِسَ المشْتَقُّ فلا يجعل شيئاً من لُغَة العَرَب لشيء لُغَة العَجَم" () وقد جاء رأيُه مُوافِقَاً لرأي أبي بكر بن السَّرَّاج (316هـ) الذي حَذَّرَ في رسالته في الاشْتِقَاق أنْ يُشتقَ من لُغَة العَرَب لشيء من لُغَة العَجَم، واستحالة ذلك؛ لأنَّ اللغاتِ لا تُشْتَقُ الواحدة منها من الأُخْرَى، وإنمَّا يُشْتَقُّ في اللغة الواحدة بَعْضها من بَعْض، لأنَّ الاشْتِقَاق نِتاجٌ وتَوْلِيد، قال في باب "ما يَجِبُ على النَّاظِر في الاشْتِقَاق أنْ يَتَوقَّاه ويَحْتَرسَ منه ": مِمَّا يَنْبَغي أنْ يُحْذَرَ مِنْهُ كل الحَذَر أنْ يُشْتَقَّ من لُغَة العَرَب لشيء من لُغَة العَجَم, فيكون بِمَنْزٍلَة من ادَّعَى أنَّ الطَّيْر وَلِدَ الحُوت ().
وخُلاصَة القَوْل ما قاله عبد القادر المغربي: أنَّ "الكلمات العَرَبِيَّة التي وقَعَتْ فعَرَّبُوها بأَلسِنتِهم وحَوَّلوها عن أَلفاظ العَجَم إلى أَلفاظهم, تُصْبِح عَرَبِيَّة, فيَجْري عليها من الأَحكام ما يَجْري على تلك، فتَتَوارَدُ عليها عَلامَاتُ الإِعْرَاب, إلاَّ في بَعْض الأَحوال, وتُعَرَّفُ بأَل, وتُضَافُ إليها, وتُثُنَّى وتُجْمَع وتُذَكَّر وتُؤَنَّث, وَفَقَ ذلك كله تَصَرَّف أَهلُ اللغة في الكَلِمَة المُعَرَّبة, وإِعْمَالهم مَباضِعَ الاشْتِقَاق في بُنِيَتها" (). وقد قَرَّر مَجْمَع اللغة العَرَبِيَّة بالقاهرة جَوازَ الاشْتِقَاق من المُعَرَّبات، جاء في القَرارِ الصَّادر في الدَّوْرة التَّاسعة والعشرين التي عُقِدَت سنة 1963 ما نَصُّه: "أقَرَّ المُؤْتَمَر جواز الاشْتِقَاق من الاسم الجَامِد العَرَبيّ والاسم الجَامِد المُعَرَّب" (). وهذا القَرارُ من أهم قَرارات المَجْمَع؛ لأن باب الاشْتِقَاق واسع، وفيه مَجَال لتنمية اللغة، ولا سِيَّما بالمُصْطَلحات العِلْميَّة، والاشتقاق من أسماء العلوم العَصْريَّة اليوم ضَرُورَة بادية أمام أعيننا، فنحن بحاجة أنْ نقول مَثَلاً كَهَرَبَ من الكهرباء، ومَغْنَطَ من المِغْنَطيس، وبَسْتَنَ من البُستان، وتَلْفَزَ, يُتَلْفِز، وبَثٌ مُتَلْفَز، وتَلْفَنَ ويُتَلفِنُ من تِلفُون, وفَلْوَز، وأَنا مُفَلْوِز، أَي مُصاب بالإنفلونزا, وكذلك تَفَرنَج ومُتَفَرنِج من الفَرْنَجة.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[28 - 07 - 2007, 02:05 م]ـ
أخي الكريم
أحب أن أنبه فقط على مسألة مهمة جدا، وهي الخلط الذي حصل للمعاصرين ولكثير من القدماء أيضا بين علم الصرف وعلم الاشتقاق.
فالموضوع الذي تتكلم فيه أنت الآن ينتمي لعلم الصرف، ومن مباحثه (ما يشتق منه وما لا يشتق منه).
والذي قصدتُه أنا بمنع الاشتقاق من الأعجمي أن الكلمة إذا كانت أعجمية لا يُقال: إن أصلها مشتق من كذا وكذا وهو أصل عربي، فهذا هو الممنوع الذي منعه جماهير العلماء، كالخليل وابن دريد وابن فارس والزمخشري وغيرهم.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[28 - 07 - 2007, 02:06 م]ـ
والذي قصده ابن الجواليقي وابن السراج من كلامه هو ما ذكرتُه، فتأمل
فمثلا إذا أردت أن تبحث عن أصل اشتقاق كلمة معينة، فإذا كانت أعجمية، فلا يصح أن تقول: إنها مشتقة من لفظ كذا وهو عربي؛ لأن هذا كما قال ابن السراج يشبه من قال إن الطير ولد الحوت.
ولكن إذا أردت أنت أن تشتق وتولد بعض الألفاظ من لفظة أعجمية فهذا مبحث آخر ينتمي لعلم الصرف، وقد وقع فيه الخلاف بين العلماء، وهو يدخل في كتب النحو والصرف في باب (الاشتقاق من الجامد) أو أولى.
فالذين منعوا الاشتقاق من الجامد - وهم الأكثرون - يمنعون الاشتقاق من الأعجمي، فالاشتقاق هنا بمعنى التوليد واستحداث ألفاظ جديدة، وليس بمعنى الاشتقاق السابق وهو البحث عن أصل الكلمة.
فهذا هو الفرق بين علم الصرف وعلم الاشتقاق.
والله أعلم.
¥