نعم، أستاذي الفاضل، كل ما أثرتَه من إشكالات، وما وضَّحتَه من تساؤلات، هو الدليل على روعة اختيارك، وسعة إدراكك، ودقَّة تفكيرك.
هذا البيت ورد في عدَّة كتب، بأكثر من رواية، وتعدَّدت حوله أوجه الإعراب، من قِبَل الأساتذة محقِّقي تلك الكتب، إلاَّ أني لم أرَ أحدًا ممَّن قرأتُ له قد شمله بحقِّه من العناية، وحفَّه بنصيبه من الرعاية.
ولعلَّ هذا مرجعه إلى اختلاف رواياته، حيث قيل: إنَّ الفرَّاء ذكر هذا البيت على هذا النمط ليجعله بابًا من النحو، وصوابه:
فما أدري وظنِّي كلُّ ظنٍّ * أيُسْلِمُني بنو البدءِ اللقاحِ
فَيَقْتُلُني بنو خَمْرٍ بِذُهْلٍ * وكِدتُ أكونُ مِنْ قَتلَى الرياحِ
ورُويَ في " الأشباه والنظائر في النحو ":
فما أدري وكلُّ الظَّنِّ ظَنِّي * أمُسْلِمُني إلَى قَومي شَراحي
وهذه الرواية تقوِّي وجه الرفع لكلمة " كلُّ "، والله أعلم.
وكأني بكم تريدون أن تزيلوا الغموض الذي اكتنفه، وتوضِّحوا الإشكال الذي غطَّاه ولفَّه، بارك الله في علمكم، ونفعني ونفع بكم.
وما أدري وظنِّي كلُّ ظنٍّ * أمُسْلِمُني إلَى قَومي شراحي
وردت منصوبة في " شرح جُمل الزجَّاجي "، وفي " تذكرة النحاة " لأبي حيَّان، وفي " أضواء البيان " للشنقيطي.
وقد ورد هذا البيت أيضًا في " الدرر "، و" المقاصد النحوية "، و" رصف المباني "، و" المحتسب "، إلاَّ أنه لم يتيسَّر لي الاطَّلاع عليها، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
وما زلتُ أرَى أنِّي سأكتفي بنقل النصوص، لأنَّ هذا مبلغي من العلم والفَهم، وسأنتظر ما تتفضَّلان به – أيها الأستاذان المباركان – من توجيه الرأي الراجح في المسألة.
جاء في هامش " شرح جُمل الزجاجي " أنَّ إعراب كلمة " ظني " مبتدأ.
كلَّ: مفعول مطلق منصوب ناب عن مصدره.
ولم يتعرَّض لبيان خبر المبتدأ " ظني "، ولعلَّه سَها عن ذلك.
ولا أرَى أنَّ المفعول المطلق يغني عن الخبر، بل إذا ورد في الجملة مصدر، وقع موقع الخبر، وتمَّ به المعنى، فهو خبر، نحو " فضلُكَ فضلٌ عظيمٌ "، والله أعلم.
فأين الخبر، على هذا الرأي؟
لعلَّه أراد أنَّ الخبر محذوف، تقديره: " حاصل "، وحذف الخبر لدلالة الكلام عليه جائز، كقول كثير، " من الطويل ":
وإِنِّي وتَهْيامِي بعَزَّةَ بَعْدَما * تَخَلَّيْتُ مِمَّا بَيننا وتَخلَّتِ
يجوز أَن يكون " تَهْيامي " مُرتفعًا بالابتداء، والباء متعلقة فيه بنفس المصدر الذي هو التَّهْيام، والخبر محذوف كأَنَّه قال: " وتَهْيامِي بعزَّة كائنٌ أَو واقعٌ "، على ما يُقدَّر في هذا ونحوه،
وأنشد الفرزدق، " من الطويل ":
فَما بَرحتْ حتَّى تَقارَبَ خَطْوُها * وبادَتْ ذراها والْمَناسِمُ رُعَّفُ
خبر الفعل الناقص " برحت " محذوف، تقديره " سائرة "، دلَّ عليه معنى الكلام.
أمّا السيوطي، فقد رأى أن تكون الواو اعتراضية، والجملة بعدها مبتدأ وخبر.
وكذلك أجاز أن تكون الواو للمعيَّة، وكلمة " كلَّ " تأكيد لكلمة " ظني " منصوب مثله، وهو توكيد معنويّ.
ويبقَى السؤال، كيف أجاز – رحمه الله – أن يكون التوكيد نكرة، فلم أقف على نصٍّ يجوِّز ما ذهب إليه، وقد أجاز ابن مالكٍ – رحمه الله – أن تضاف كلمة " كلّ " إلى مثل الظاهر، نحو قول كثير، " من البسيط ":
كمْ قدْ ذَكَرتُكِ لوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمُ * يا أشْبَهَ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ بِالْقَمَرِ
ومثله قول الفرزدق، " من البسيط ":
أنتَ الْجَوادُ الَّذي تُرجَى نَوافِلُهُ * وأبْعَدُ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ مِنْ عارِ
قلتُ، ومثله قول جرير، " من البسيط ":
ألَسْتِ أحْسَنَ مَنْ يَمشي علَى قَدَمٍ * يا أملَحَ النَّاسِ كلِّ النَّاسِ إنْسانا
ولعلَّ السيوطي أراد: " وظنِّي كلَّ ظنِّي ".
والوجه الثاني، أنَّه يمكن للضمير أن يحلَّ محل الاسم الظاهر، إن كان توكيدًا، وعليه يصبح التقدير حسب إعرابه: " وظنِّي كلَّه "، فكيف يتفِّق هذا التقدير مع إعرابه الأول، وهو أن تكون كلمة " كلُّه " خبرًا؟، لا أرَى أنَّ هذا ممكن، والله أعلم.
والعجب، كيف جَمَع – رحمه الله - بين الشَّتيتَين؟
فعلَى إعرابه الأوَّل، أنَّ كلمة " كلُّ " خبر، الجملة تامة المعنى.
وعلَى إعرابه الثاني، أنَّ كلمة " كلَّ " تأكيد، هي بعض جملة، أيْ ناقصة المعنى.
ولعلَّ هذا ما لَمَحه أستاذي البديع، حين أشار مرَّة إلى وجود محذوف، ثمَّ تساءل لاحقًا: هل الجملة تامَّة الفائدة؟
أقول: نعم " يا أيُّها العزيز "، هي تامَّة المعنى، على إعرابها جملة تتكوَّن من مبتدأ وخبر، معترضة بين الفعل ومعموله، ويبقى على القارئ تقدير معنى هذا الاعتراض، ولعلَّ الشاعر أفادنا بهذه الجملة، أنه مع كونه لا يدري، أيسْلِمه " شراحيل " إلى قومه أم لا، إلاَّ أنَّ الأمل يحدوه أنه لن يسلِّمه، وهذا الذي قصدتُه من لَمح المعنى، وإلاَّ ستكون جملة " وظنِّي كلّ ظنٍّ " عبثًا.
غير أني أرَى أنه قد يُقدَّر محذوف على إعرابٍ آخر، ولا بدَّ من بيانه مع الإعراب، مع بيان توجيه معموليْ " ظنِّي ".
ولا أرَى أنَّ هناك عاملين يتنازعان كلمة " كلّ "، وإن تعدَّدت الأقوال في إعرابها.
وأخيرًا، إن ثبتت رواية النصب عن العرب، فلا بدَّ من توجيهها، لأنَّ العرب هم الذين يحكمون على اللغة، غير أني ما زلتُ أرَى أنه يمكن توجيهها توجيهًا آخر غير التوكيد والمفعولية المطلقة.
لكن الأولَى بي أن أقفَ هنا، قبل أن أتعمّق في جهلي، وتزداد أخطائي، ومن ثَمَّ تأمران بطردي من مجلسكما المبارك.
أستاذيَّ الجليلين: ما زلتُ أستنير بنور علمكما، وأسعد بضياء لقائكما، أسأل الله أن يرفع قدرَكما.
تفضَّلا بقبول فائق تحياتي وبالغ احترامي
تلميذكما: حازم
¥