وهذا القول وَسَط، بين قول الكوفيين السَّمحين الذين يقولون: يجوز أن يستغنى بمرفوع المبتدأ وإن لم يعتمد على استفهام أو نفي، مطلقًا
وبين قول المتشدِّدين من البصريين، الذين يقولون: لا يجوز أبدًا.
وأما تقديرك – أيُّها الأستاذ الفاضل - أنَّ المبتدأ محذوف، في قوله: " فائزٌ أولو الرَّشَد "، وتقديره " هذا ".
فأرَى أنه تقدير بعيد، إذ لا يصحُّ معنًى ولا إعرابًا، ولا يستقيم معنى الجملة به
ويصحُّ تقدير " هذا " إذا كان معمول الوصف منصوبًا أو مجرورًا، نحو: " ضاربٌ زيدًا " فتقول: هذا ضاربٌ زيدًا، أو: " سارق المنزلِ "، فتقول: هذا سارقُ المنزلِ "، والله أعلم.
وقد أحسنتَ – أيُّها اللبيب – بقولك: " خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر ".
وهذا صحيح، وهو توجيه البصريين لإعراب نحو هذا التركيب، إذ يقولون أنَّ الوصف الذي لم يعتمد على استفهام أو نفي، هو خبر مقدَّم، وما بعده مبتدأ مؤخَّر.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا خلاف بين الكوفيين والبصريين في صحَّة هذا التركيب، لأنه مسموع عن العرب، وإنما الخلاف في توجيه إعرابه، فالخلاف دائر بين كونه مبتدأ أو خبرًا.
وأما قولك في نحو: " مُكرهٌ أخاك ": " مكرهٌ، نكرة لم أر لها مسوِّغًا للابتداء بها "
قلتُ: أحسنتَ ثانيةً وثالثةً – أيُّها الألمعيُّ -، ولذلك لا يجيزها البصريون لتكون مبتدأ، إذ لا مسوِّغ للابتداء بها، فإن اعتمدت على استفهامٍ أو نفي، فأعظِم به من مسوِّغ.
وعلى رأي مَن لا يشترط اعتماد الوصف على استفهام أو نفي، فيقال: إنَّ الوصف " المبتدأ " عامل، نحو " قائمٌ الزيدان "، وهذا قول الأشموني في حال جواز أن يكون الوصف مبتدأ.
وقد تعقَّبَه " الدماميني ": بأنَّ مسوِّغات النكرة في المبتدأ المخبر عنه، أما الوصف الرافع لمُغنٍ عن الخبر، فشرطه التنكير، كما نصُّوا عليه، فكان الصواب التمثيل بنحو: " ضربٌ الزيدان حَسنٌ ".
ووافقه الصبَّان بقوله: (ويؤيِّد تعقبه أنَّ تعليلهم امتناع الابتداء بالنكرة بأنها مجهولة، والحكم على المجهول لا يفيد لا يجري فيه، لأنَّ المبتدأ هنا محكوم به لا محكوم عليه) انتهى
وقرَّر ذلك الخضري أيضًا في " حاشيته ":
(أما المكتفي بمرفوعه فشرطه التنكير، كما نصُّوا عليه، ولا يحتاج لمسوغ، لأنه محكوم به كالفعل لا عليه، ولذا كان أصل الخبر التنكير، وكان حقه أن لا يتصف بتعريف ولا تنكير كالفعل) انتهى
وتأسيسًا على ما ذُكر، أعود إلى قولهم: " مُكرهٌ أخاك لا بَطلٌ ":
جاء في هامش " أوضح المسالك ":
هذا مَثلٌ من أمثال العرب، ذكره الميداني مرتين، وإعرابه:
مكره: خبر مقدَّم مرفوع بالضمة الظاهرة
أخاك، أخا: مبتدأ مؤخر، مرفوع بضمة مقدَّرة على الألف، منع من ظهورها التعذُّر، وهو مضاف.
قلتُ: إعرابها بضمة مقدَّرة على لغة القصر، كما قال ابنُ مالكٍ – رحمه الله -:
وقَصْرُها مِن نَقْصِهنَّ أشْهَرُ
وهذا إعراب البصريين، ووافقهم ابنُ هشامٍ – رحمه الله -.
وقد سَبق أنَّ الأخفش والكوفيين، يرون أنها مبتدأ، والله أعلم.
ختاماً، بَقيَ النظر في قولك: " فهل يمكننا أن نجوِّز ذلك اعتمادًا على قول الكوفيين؟ "
أقول: نعم، يمكننا الاعتماد على ما نراه أنه هو الأسهل، والحمد لله، وهذه المسألة لم ينفرد بها عالم واحد، بل هي رأي أهل الكوفة، ومعهم العالم الفَذّ " الأخفش "، ووافقهم ابنُ مالكٍ، وأكرِم به مِن إمامٍ في النحو.
وقد تمَّ توجيه كلام العرب منهم، بدون تأويل، كما فعل أهل البصرة.
ولذلك أرَى أنَّ هذه المسألة خلافية، وأرَى أنَّ قول ابنَ مالكٍ حجَّة، بأنه يجوز على وَجهٍ قليل، والله أعلم.
ولا يفوتني أن أشكر الأستاذ " أديب " على إتحافنا بالرابط الذي احتوَى على فوائد عظيمة، بارك الله فيكما.
مع عاطر التحايا
ـ[موسى 125]ــــــــ[21 - 02 - 2005, 08:42 م]ـ
شكراً للأستاذ (حازم) على التوضيح المفيد نسأل الله أن ينفعنا بعلمه ويوفقه إلى الخير.
ـ[موسى 125]ــــــــ[15 - 03 - 2005, 08:48 م]ـ
الأستاذ (حازم) وفقه الله
قلت في مذاخلتك في هذا الموضوع (لا يصح تقدير (هذا) في قول ابن مالك (فائزٌ أولو الرشد) إلا في حال كون معمول الوصف منصوباً أو مجروراً ..... أرجو توضيح سبب المنع ولك الشكر.
ـ[حازم]ــــــــ[16 - 03 - 2005, 12:09 م]ـ
أشكرك – أيها الأستاذ الفاضل -، على ملحوظتك الرائعة.
وقد كان كلامي مجملاً، وأسأل الله التوفيق لتوضيح المبهَم.
قولنا: " فائزٌ أولو الرشَّد "
جملة كاملة الأركان، لا تحتاج إلى تقدير، أو إضمار.
ومعناها مكتمل: الفائزون هم أولو الرشد.
ويبعد أن تقول: هذا فائزٌ أولو الرشد.
وكذا يبعد أن تقول: هو فائزٌ أولو الرشد.
إذ لو كانت الجملة: " فائزٌ في المسابقة "، لصحَّ أن يقال: هذا فائزٌ في المسابقة.
أو تقول: هو فائزٌ في المسابقة.
أما تعليل المنع لتقدير مبتدأ، لنحو" فائزٌ أولو الرشد "، فأقول:
الجملة: " فائزٌ الطالبُ "، إذا قدَّرتَ المبتدأ، وقلتَ: هذا فائزٌ الطالبُ "
تعيَّن أن تكون كلمة: فائزٌ " خبرًا للمبتدأ.
وهي وَصفٌ، وبعدها معمول هذا الوَصف، ولا يمكن أن يكون معمولها مرفوعًا.
لأنَّ المرفوع فاعل، أي: الفائز هو: الطالبُ.
وقد سبق أن ابتدأت الجملة، وأوضحتَ أنَّ الفائز، هو من أشرتَ إليه، بقولك: هذا.
فيحصل التضارب في المعنى، ولا تستقيم الجملة.
أما لو كان المعمول منصوبًا، نحو: حافظٌ الدرسَ.
الدرس: مفعول به، فالجملة لم يكتمل معناها، وتحتاج إلى تقدير.
فتشير إليه وتقول: هذا حافظٌ الدرسَ
أو تخبر عنه، وتقول: هو حافظٌ الدرسَ.
أو تتكلَّم عن نفسك، وتقول: أنا حافظٌ الدرسَ
ويمكن أن تخاطب بالجملة، وتقول: أنتَ حافظٌ الدرسَ.
وينطبق هذا التقدير على المعمول إن كان مجرورًا.
والله أعلم
أرجو أن أكون قد وُفِّقتُ للإجابة الصحيحة
مع عاطر التحايا
¥