تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فلا بد لنا إذن أن نفرق بين هذين النوعين من القياس، " فالقياس اللغوي هو مقارنة كلمات بكلمات أو صيغ بصيغ أو استعمال باستعمال، رغبة في التوسع اللغوي، وحرصاً على اطراد الظواهر اللغوية " وهذا القياس يقوم به المتكلم وهو الذي يلجأ إليه الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل وقد يحدث أن يخطئ الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل، يحدث هذا في مرحلة اكتساب اللغة، وهي مرحلة مبكرة جداً من عمر الإنسان، وقد يحدث أن يخطئ الطفل في قياسه، وهنا يبرز دور الأسرة في إرشاده إلى الاستعمال الصحيح، فالطفل يسمع مثلاً: كبير وكبيرة، وصغير وصغيرة، وطويل وطويلة فيظن أن الفرق بين المذكر والمؤنث ينحصر في " تاء التأنيث " فحسب، لذا يقيس على هذه الكلمات التي سمعها ما لم يسمعه فيقول: أحمر و أحمرة، وأعرج وأعرجة، وهذا ما يعرف بالقياس الخاطيء.

ويستمر هذا القياس مع ابن اللغة في مراحله المختلفة، فالكبير أيضاً يستخدم القياس فيقيس ما لم يسمعه من قبل على ما لديه من مخزون لغوي، فليس من المعقول أن يكون قد سمع كل الصيغ والجمل وطرق صياغتها وكذا الأسلوب لذا نراه يلجأ دائماً إلى القياس، وقد يحدث أن يخطئ أيضاً في قياسه.

ولا شك أن العربي القديم قبل الإسلام قد لجأ في كلامه إلى القياس، وأخطأ أيضاً في قياسه، ولكن قياسه لم يكن يوصف بأنه صواب أو خطأ في كثير من الأحيان، ولعل كثيراً من الصيغ والاستعمالات العربية التي نعدها فصيحة صحيحة قد كانت نتيجة هذا القياس الخاطئ.

حتى إذا جاء الإسلام وارتبطت العربية بالقرآن، لم يعد يسمح لهذا القياس بالانتشار، فوضعت القوانين والقواعد لحفظ الألسنة من اللحن خاصة بعد انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، ولولا ارتباط العربية بهذا النص الخالد لتطورت كغيرها من اللغات نتيجة لهذا القياس.

وما تفعله المجامع اللغوية الآن من صياغة الجديد من المصطلحات والألفاظ قياساً على طرق الصياغة العربية لهو نفسه "القياس الاستعمالي "،وذلك لمسايرة التقدم الحضاري وما يصحبه من ضرورة صياغة الجديد من الألفاظ والمصطلحات للاكتشافات والعلوم الجديدة التي لم تكن معروفة في أصل هذه اللغة.

فهذا النوع من القياس هو ما يقصده ابن جنى بقوله: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب " (9) وهو ما يقصده السيوطي عندما ينقل عن ابن الأنباري قوله: " اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس ولهذا قيل في حده النحو: علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب " فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يُعْلَم أحد من العلماء أنكره، لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك أنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي:

" كتب زيد " فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى يصح منه الكتابة، نحو: " عمرو" و " أردشير" و"بشر" إلى مالا يدخل تحت الحصر، وإثبات مالا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال، وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال، الرافعة، والناصبة، والجارة، والجازمة، ... فلو لم يجز القياس، واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل، وذلك مناف لحكمة الوضع، فوجب أن يوضع وضعاً قياسياً عقلياً لا نقلياً ... (10)

أما النوع الثاني من القياس فهو "القياس النحوي " أو قياس الأحكام "، وهذا النوع يقوم به الباحث، ويعرّفه النحاة (11) انه" حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه"، أو " هو قياس حكم شيء على حكم شيء آخر لسبب يوردونه .. "، أو بعبارة أخرى " حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة"، " أو حمل فرع على أصل لعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع " أو " إلحاق الفرع بالأصل بجامع"، وهذا القياس هو المقابل النظري للقياس الاستعمالي، فإذا كان ما يرمي إليه القياس الاستعمالي " هو الصوغ العملي فإن ما يرمي إليه القياس النحوي هو الحمل النظري ويجب أن يكون الموقف من القياس النحوي منطلقاً من اللغة نفسها، ولا يحكم بمعايير غير لغوية في قياسه، وهذا ما حدث بالفعل في القرنين الأول والثاني الهجريين، ثم تحول موقف الباحث حيث بدأ يحكم معايير غير لغوية في دراسة اللغة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير