تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في نصبه الحالَ إلى واسطة، كما لا يفتقر إليها في نصب الظرف أو المفعول له، أو المفعول المطلق. وأما السماع، فمنه قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلاّ كافَّةً للِنّاسِ بَشِيْراً

وَنَذِيْراً} (32). والأصل: وما أرسلناك إلا للناس كافةً. ولم يرتض المانعون هذا، فأوّلوا الآية بما يوافق مذهبهم، فذهب الزجاج إلى أن

(كافة) حال من الكاف (33)، وعلى قوله تكون التاء فيه للمبالغة، والمراد: كافّاً، أي: لتكُفَّ الناس عن الشرك والكبائر (34). وذهب الزمخشري إلى أن (كافة) صفة لموصوف محذوف، لأنه قال في معنى الآية: " إلا إرسالةً عامةً لهم محيطة بهم " (35). فحُذف الموصوف، وأُقيمت الصفة مقامه، وسأعود إلى مناقشة هذين التأويلين في آخر الترجيح، إن شاء الله.

ومما احتج به المجيزون، مما سُمع من كلام العرب قول الشاعر:

فإنْ تَكُ أَذُوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوةٌ ** فَلَنْ يَذْهبُوا فِرْغاً بقَتْل حِبالِ (36)

وحبال: اسم رجل، أي: لن يذهبوا بدم حبال فرغاً، أي هَدَراً.

وقول الشاعر:

لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صاديا إِليَّ حَبيباً إنها لَحَبِيْبُ (37)

أي: لئن كان برد الماء حبيباً إليَّ هيمانَ صادياً.

وقول الآخر:

تَسَلَّيتُ طُرَّاً عَنْكُمُ بَعْد بَيْنِكمْ ** بِذِكْراكُمُ حتى كأنّكُمُ عِنْدي (38)

أي: تسليت عنكم طرّاً، أي: جميعاً.

ومثله قول الشاعر:

إذا المَرْءُ أَعْيَتْهُ المُرُوءَةُ ناشِئاً ** فَمَطْلَبُها كَهْلاً عليه شَدِيْدُ (39)

أي: عليه كهْلاً.

ومن أمثلة أبي علي الفارسي: (زيدٌ خيرَ ما يكون خيرٌ منك) (40)، على أن المراد: زيد خيرٌ منك خيرَ ما يكون، فجعل (خيرَ ما يكون) حالاً من الكاف المجرورة، مقدمة عليها (41).

والراجح عندي، من هذين المذهبين، جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور، ولكنه جائز على ضَعْف. قال ابن مالك: " وتقديمه على صاحبه المجرور بحرف ضعيف على الأصح لا ممتنع " (42).

وإنما كان ضعيفاً لقلة السماع (43).

وقد ترجح – عندي – مذهب المجيزين لأمرين:

الأول: ضَعْف ما اعتل به المانعون، فإنهم جعلوا العامل في صاحب الحال حرف الجر، وحرف الجر لا يتصرف كالفعل، وفي جعل العامل في صاحب الحال حرفَ الجر، وَحْدَه، نَظَرٌ، ولهذا كان من حجتهم أن حرف الجر من تتمة العامل. والصحيح أن العامل هو الفعل، وحرف الجر لا عمل له إلا تعدية الفعل، والمجرور به في محل نصب، وحال المنصوب يجوز تقديمها عليه، نحو: ضربتُ مكتوفاً اللصَّ، فكذلك حال المجرور بحرف الجر. ولكون العامل هو الفعلَ بواسطة حرف الجر يُسقط ما احتجوا به من أن الحال تتقدم على الرافع والناصب، لأن المعمول فيهما يجوز تقديمه على العامل بخلاف حال المجرور.

الثاني: صحة السماع، وبطلان تأويل المانعين، وذلك في قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كافةً للِنّاس} (44)، فإن الزجاج جعل (كافة) حالاً من الكاف، فيكون حالاً مفرداً، لأنه اسم فاعل من كفَّ يكُفُّ، مع أن معناه: جميعاً. وَجَعَلَهُ – أيضاً – من مذكر مع كونه مؤنثاً، إلا أن يجعل التاء فيه للمبالغة، وجَعْلُ التاء في اللفظ للمبالغة مقصور على السماع، ولا يتأتّى، غالباً، إلا في أمثلة المبالغة، كعَلاّمة، ونَسّابة.

و (كافة) ليس من أمثلة المبالغة، مع أن إلحاق تاء المبالغة في أمثلة المبالغة شاذ، والحمل

على الشاذ مكروه (45). وجعل الزمخشري (كافة) صفة، والعرب لم تستعمله إلا حالاً (46)، وجعله – أيضاً – صفةً لموصوف محذوف، والصفة لا تنوب عن الموصوف إلا إذا كان معتاداً ذكرُها معه (47). فإذا بطل هذان التأويلان لم يبق إلا القول بأن (كافة) حال من (الناس)، وهو مجرور، وقدمت الحال عليه للاهتمام (48)، وهذا التأويل الصحيح مدلول عليه بالقرآن والسنة وأقوال المفسرين، أما القرآن فقول الله تعالى: {قُلْ يا أَيُّها النّاسُ إِنّي رسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (49).

وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: " وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصةً، وبُعثتُ إلى الناس عامة " (50).

وأما أقوال أهل التفسير فمنها قول محمد بن كعب (51) في آية سبأ: " يعني إلى الناس عامة " (52) وكذلك قال غيره من المفسرين (53). والله أعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير