[من أسرار التقديم والتأخير في القرآن الكريم]
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[20 - 08 - 2002, 11:54 ص]ـ
يتميز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمة، والدقة في اختيار موضعها، فإن قدم كلمة على أخرى فلحكمة لغوية وبلاغية تليق بالسياق العام
* من مواضع التقديم والتأخير في القرآن الكريم ما ورد في آية واحدة من سورة الجمعة، وهي قوله تعالى: " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين "
ففي البدء قدم التجارة على اللهو، لأن التجارة هي السبب الحقيقي في انفضاضهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فالآية نزلت في واقعة حدثت عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الجمعة، فقدمت عير للتجارة إلى المدينة، فانصرف الناس إليها، وتركوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا
وكان من عاداتهم أن يتقدم الدف والطبل تلك العير فهو من اللهو، ولكنه لليس مقصودا لذاته، بل هو تبع للتجارة التي هي مقصدهم الأصلي
ولعل هذا هو السبب أيضا في إفراد الضمير وعودته على التجارة في قوله " انفضوا إليها " ولم يقل إليهما، وأعيد الضمير على التجارة أيضا للتأكيد على ذم الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان لتجارة وهي ذات منفعة لهم لا سيما وأنهم كانوا في فترة جوع وغلاء سعر، فكيف بغيرها من توافه الأمور، فأنت إن خصصت النافع بذم أو نهي، فما دونه أولى في الترك، وأدخل في الذم
أما في الجزء الثاني من الآية فقد قدم اللهو، لأنه يتحدث عن أمر عام بأن ما كان عند الله خير، فناسب تقديم اللهو لأنه أعم، فاللهو يفعله أكثر الناس حتى الفقراء منهم /، أما التجارة فهي لبعض الناس
ولأن المعتاد أن نبدأ بالأدنى عند المفاضلة واللهو أدنى من التجارة، ففي الأخيرة شيء من كسب ونفع لا يوجدان في اللهو، ثم إن المقام مقام ذم، ولا شك أن اللهو أظهر في المذمة
وناسب تأخير التجارة لتكون ألصق بخاتمة الآية " والله خير الرازقين " فهي مصدر الرزق
لطيفة تفسيرية:
قد يخطر على الذهن سؤال: لم أعاد حرف الجر (من) في قوله: " خير من اللهو من التجارة "؟
والجواب أن الإعادة للتأكيد على أن الذم واقع على كل واحد منهما منفردا، إضافة إلى اشتراكهما، فلا يظنن ظان أن ما عند الله خير منهما في حالة واحدة هي اجتماعهما، أما لو انفرد أحدهما كالتجارة مثلا فقد يختلف الحكم.
فالواو كما نعلم تفيد الجمع والاشتراك، فقد يفهم منها ذلك، أما مع إعادة الجار فالأمر واضح بشمول الذم لاجتماعهما، ولكل منهما منفردا، وبخيرية ما عند الله وأفضليته على اللهو منفردا وعلى التجارة منفردة وعليهما مجتمعين
ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[20 - 08 - 2002, 11:55 ص]ـ
* موضع آخر للتقديم والتأخير في قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " الإسراء 88
وقوله عز وجل: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا " الرحمن 33
لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته
والإنس في هذا المجال هم المقدمون، وهم أصحاب البلاغة وأععدة الفصاحة وأساطين البيان، فإتيان ذلك من قبلهم أولى، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في في السماء للاستماع، كما قال تعالى على لسانهم: " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9
فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس