[من بلاغة القرآن الكريم]
ـ[معاوية]ــــــــ[17 - 07 - 2004, 02:43 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنقل لكم ما قرأته للكاتب د. أحمد طاهر حسنين
القرآن الكريم هو كتاب الإسلام الخالد, الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (سورة فصلت, 42)
ومنذ نزل هذا الكتاب السماوي الخالد, والمسلمون عاكفون عليه: يأخذون عنه, وينهلون منه, فكان أن امتدّت بركته ونفحاته إلى كل مجالات تراثنا العربيّ الإسلاميّ, فأخصبها, ونمّاها.
ومن بين المجالات التي أوسعها الباحثون درسا وتمحيصا: جوانب الإعجاز في القرآن الكريم.
وهذه المجالات في رأيي ليست خاتمة المطاف, فكلما اقتربنا من مائدة الرحمن هذه, ازددنا يقينا على يقين, ورأينا رأيَ العين كيف أننا أمام بحر زاخر لا ساحل له.
أشير هنا فقط إلى جانب واحد من جوانب الإعجاز البياني في القرآن الكريم, وهو تلاؤم الألفاظ مع معانيها تلاؤما محكما من خلال بضعة نماذج من القرآن الكريم.
لا يغيب عن الأذهان أن القرآن الكريم كله محكم في هذه الناحية, وهذا هو الذي جعل إعجازه أبعد الغايات عن طاقة التعبير الأدبي عن البشر,
(ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيهِ اختلافاً كثيراً) (سورة النساء, 82)
انطلاقا من هذا التصور, أعرض فيما يلي عدداً من التعبيرات القرآنية التي تُبلور التلاؤم الحي بين المعاني وألفاظها من ناحية, بل بين التعابير القرآنية, وسياقاتها من ناحية أخرى.
وقد أحار إذ أختار؛ إذ كل كلام الله مختار.
يقول الباقلاني (ت403هـ) في هذا الصدد, وهو يشير إلى شريف النظم وبديع التأليف في قوله سبحانه
(وكذلك أوحينا إليكَ روحاً من أمرنا) (سورة الشورى, 52):
خذ كلمة قرآنية واستخدمها في شعر أو نثر,
ستجدها كالدرة وسط العقد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأكله الذئب
أول مثال هنا قوله سبحانه: (فأكله الذئب) في قصة يوسف عليه السلام.
قد يطرأ سؤال مؤادّاه: إننا بعقولنا البشرية, قد نقول في هذا المقام: فافترسه الذئب, وبخاصة وأن الذئب حيوان مفترس, من شأنه أن يهجم على فريسته, فيشبع بطنه, ويرد جوعته, بافتراس ما تيسر له منها من شحم أو لحم, أو عظم ودم, وسرعان ما ينصرف عنها تاركاً سقطها: دماءً تنزف, وعظما تهشمّ, وبقايا مختلطة من جلد وشعر, وما إلى ذلك.
ومعنى هذا أن (الافتراس) يعقبه عادة بقايا من الفريسة أو الضحية.
وفي ضوء هذا, لم يكن ممكنا لإخوة يوسف- وهم يكذبون على أبيهم- أن يقولوا له: إن الذئب قد (افترس) أخاهم, وإلاّ لسألهم الأب عما تبقّى من ابنه بعد حادثة الهجوم والافتراس.
وهنا فقد كان لهم أن يفتضح أمرهم, حيث لم يكونوا قادرين على إخفاء جريمتهم, ولذلك فقد اختاروا-أو بالأحرى- اختار القرآن الكريم لهم أن يجيئ تعبيرهم بفعل (أكل) في هذا السياق, وذلك بدلاً عن فعل (افترس) حيث كان (الأكل) يداري فعلتهم النكراء, وجريمتهم الشنعاء, إذ هو إتيان على المأكول كله, دون ترك آثار منه. ومعنى ذلك أن التعبير بالأكل, دون الافتراس قد جاء تغطية أمينة لموقفهم الفاضح, وفعلهم الجاهل. وهذا بالضبط هو ما قصدناه من تلاؤم اللفظ مع الدلالة, بل أيضا مع الموقف والسياق.
يقول الخطابيّ (ت388هـ):
(إن الافتراس معناه في فعل السبع القتل فحسب, وأصل الفَرْس دقُّ العنق.
والقوم إنما ادّعو على الذئب أنه أكله, وأتى على جميع أجزائه وأعضائه, فلم يترك منه مفصلا ولا عظما, وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم بأثر باق منه يشهد بصحة ما ذكروه, فادّعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة, والفَرْس لا يعطي تمام هذا المعنى, فلم يصلح على هذا أن يعبَّر عنه بالأكل.)
(انظر كتاب د/ محمد محمد أبو موسى: الإعجاز البلاغي. ص 60).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإملاق (الفقر)
مثال آخر على تلاؤم الألفاظ مع معانيها لمناسبة سياق معين, قول الله تعالى:
(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (سورة الأنعام,151) , وقول الله تعالى في آية أخرى:
(ولا تقتلوا أولادكم خَشيةَ إملاق نحن نرزقهم وإياكم) (سورة الإسراء,31).
الذي ينظر إلى هاتين الآيتين يرى أن ثمة بعض التشكيلات اللغوية الخاصة في كل منهما. وهذه التشكيلات لها دلالاتها الوثيقة بالمعنى في كل حالة.
فالآية الأولى تقول: (من إملاق) , وتردف ذلك بأن يأتي فعل الرزق فيها متصلا بضمير المخاطبين (نرزقكم) على حين تذكر الآية الأخرى: (خشية إملاق) ويأتي بعدها فعل الرزق متصلا بضمير الغائبين (نرزقهم).
فما دلالة كل من هذا وذاك؟
بإمعان النظر في الآية الأولى, نجد أن سبب النهي عن القتل هو الفقر الواقع بالآباء.
فالآية تقول: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) أي بسبب الفقر.
ومعنى ذلك أن الآية هنا تخاطب (فقراء) على الحقيقة.
وأهم ما يسعى إليه الفقير وينتظره, أن يطمئن على رزقه أولا, وقبل أي إنسان آخر, مهما يكن, حتى لو كان ولده , ومن صلبه.
ومن هنا جاء مناسبا أن يتوجه الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الفقراء على الحقيقة, فيطمئنهم مباشرة بأنه سيرزقهم ومن ينجبون.
وبنفس القدر من التأمل, نستطيع أن نكشف السرّ, في مدى ملائمة التعبير في الآية الثانية للموقف والسياق. فالآية تقول: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أي خوفا أو تحسبا لفقر مرتقب.
ومعنى ذلك أن المخاطبين- الآن على الأقل - آمنون على رزقهم, لديهم ما يسد رمقهم, ومن هنا فليسوا بحاجة إلى طمأنة على أرزاقهم الآن, لأن كل ما يخشونه أن يجيئ هؤلاء الأولاد المستقبليون, فيهددوا رزقهم, أو ينقصوا منه.
من أجل هذا تجيئ طمأنة القرآن الكريم لهم في هذه الحالة نابعة من واقعهم: (نحن نرزقهم وإياكم) أي لا تخشوا, فلن يكون الأبناء عبئا عليكم في المستقبل, لأنهم سيجيئون ومعهم أرزاقهم, وبالطبع فلن ننساكم كذلك.
ولكلام الدكتور أحمد طاهر حسنين عن بلاغة القرآن بقية إنشاء الله سأكملها
¥