متينة ذلك الدين الذي يربطك بالله، يثير هذا المعنى في نفسك هذا التعبير القوى المصور حبل الله .....
وقوله تعالى {والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} وقوله تعالى {لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا}
وقوله تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره}
وتأمل جمال إفراغ في قوله سبحانه {ربنا افرغ علينا صبرا} وما يثيره في نفسك من الطمأنينه التي يحس بها من هدأ جسمه بماء يلقي عليه وهذه الراحه تشبهها تلك الراحة النفسية ينالها من منح هبة الصبر الجميل
- ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ المستعارة انه استخدم إفراغ وهي توحي بالين والرفق عند حديثه عن الصبر
- وهو من رحمته فإذا جاء إلى العذاب استخدم كلمة صب فقال {صب عليهم ربك سوط عذاب} وهي مؤذنه بالشدة والقوة معا
- وتأمل كذلك قوة كلمة زلزلوا في قوله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرالله ألا أن نصر الله قريب}
- ولو انك جهدت في أن تضع كلمة مكانها ما استطاعت أن تؤدى معنى هذا الاضطراب النفسي العنيف وقد تحدثنا فيما مضى عن جمال التعبير في قوله تعالى {ينقضون عهدالله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به يوصل}
- وقوله سبحانه {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}
- وقد يستمر القرآن في رسم الصورة المحسوسة بما يزيدهما قوة تمكن لها في النفس، كما ترى ذلك في قوله تعالى {اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}
- فقد اكمل صورة الشراء بالحديث عن ربح التجارة والاهتداء في تصريف شئونها
- وقد يحتاج المرء إلىتريث يدرك به روعة التعبير كما تجد ذلك في قوله تعالى {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}
- فقد يبدو أن المناسبة تقضي أن يقال فالبسها الله لباس الجوع ولكن إيثار الذوق هنا لأن الجوع يشعر به ويذاق وصح أن يكون للجوع لباس لان الجوع يكسو صاحبه بثياب الهزال والضنى والشحوب. --- وقد يشتد وضوح الأمر المعنوى في النفس ويقوى لديها قوة تسمح بان يكون اصلا يقاس عليه كما ترى ذلك في قوله سبحانه {أنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} فهنا كان الطغيان المؤذن بالثورة والفوران أصلا يشبه به خروج الماء عن حده لما فيه من فورة واضطراب ....
- وعلى النسق جاء قوله تعالى {وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتيه} فهذه الريح المدمرة يشبه خروجها عن حدها العتو والجبروت -وقد يحسم القرآن المعنى ويهب للجماد العقل والحياة زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس وذلك بعض مايعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكينة ..
- ومن أروع هذا التجسيم قوله سبحانه {ولما سكت عن موسى الغضب اخذ الالواح} ألا تحس بالغضب هنا وكأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة ثم سكت وكف عن دفع موسى وتحريضه ..
- ومن تعقيل الجماد قوله سبحانه {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين} وفي ذلك التعبير ما يدل على خضوعهما واستسلامهما ...
- وقوله سبحانه {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقص فأقامه}
- وكأنما الجدار لشدة وهنه وضعفه يؤثر الراحة لطول مامر به زمن وقوله تعالى {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير اذا القوا فيهما سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كما ألقى فيها فوج سألهم خزنها ألم يأتكم نذير}
- فهذا التمّيز من الغيظ يشعر بشدة ما جناه أولئك الكفرة حتى لقد شعربه واغتاظ منه هذا الذي لايحس وعلى هذا النسق قوله سبحانه {كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من ادبر وتولى} ألا تحس في هذا التعبير كأن النار تعرف أصحابها بسيماهم فتدعوهم إلى دخولها ومنه قوله تعالى {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت}
- وفي ذلك ما يشعرك بالحياة التي تدب في الأرض حين تاخذ زخرفها وتتزين هذا ...........
- وقد كثر الحديث عن قوله سبحانه {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} ورووا ما يفهم منه أن أبا تمام قلد هذا التعبير فقال
- لا تسقنى ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائى
حتى انه يروى أن أحدهم أرسل إليه زجاجة يطلب منه فيها شيئا من ماء الملام فقال ابو تمام حتى تعطيني ريشة من جناح الذل قيل فاستحسنوا منه ذلك ...
وعندى أن ليس الأمر على ما ذكروه وان هذا التعبير كناية عن الرفق في معاملة الوالدين واخدهما باللين والرقة كما تقول واخفض لهما الجناح ذلا ولكن لما ثمة صلة بين الجناح بمعنى جانب الإنسان وبين الذل إذ أن هذا الجانب هو مظهر الغطرسة حين يشمخ المرء بأنفه ..
ومظهر التواضع حتى يتظامن- أجازت هذه الصلة إضافة الجناح للذل-
- لا على معنى الملكية فلسنا بحاجة إلى تشبيه الذل بطائر نستعير جناحه ولكنا بحاجة إلى استعارة الجناح للجانب وجمال ذلك هنا في أن اختيار كلمة الجناح في هذا الوضع يوحي بما ينبغي أن يظل به الابن أباه من رعاية وحب كما يظل الطائر صغار فراخه
- وبما ذكرناه يبدو أن يبت أبى تمام لم يجر على نسق الآيه الكريمة فليس هناك صلة مابين الماء والملام تجيز هذه الإضافة ولا سيما أن إيحاء الكلمات في الجملة لاتساعد ابا تمام على إيصال تجربته الى قارئه فليس في سقى الماء ما يثير ألما ولو أنه قال لا تجر عنى غصص الملام لاستطاع بذلك أن يصور لنا شعوره تصويرا ادق وأوفى لما هاتان اللفضاتان في نفس من المشقة والالم ...
من كتاب من بلاغة القرآن
تأليف أحمد أحمد بدوي
¥