تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والعظيم، كما يقول بعض أهل العلم المعاصرين، لا بد أن يشغل الناس، فهم قبل وروده عليهم في عافية، فإذا جاء صيروه فرقانا بينهم، فانقسموا لأجله، وافترقوا في شأنه، وعقدوا ألوية الولاية والعداوة لنصره، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم أولئك، وإن كان الناس قبل مبعثه في بلاء فلم يكن لهم في العافية نصيب إلا آحادا من بقايا أهل الكتاب الذين تمسكوا بالدين الصحيح وفروا به إلى الخلوات والفلوات، فهو الفرقان الخاتم بين أصحاب الجنة ممن اقتفى أثره، وأصحاب النار ممن نكص على عقبه.

ومن الناس في هذا الباب من هو على الضد ممن سبق، فتراه قد فرط في باب المحبة لغيره، فلا يكاد يظهر مودة لأحد، بزعم الحفاظ على الهيبة، بل قد يوقعه ذلك في نوع كبر على الآخرين، فيأبى حتى الاعتذار إذا أخطأ، إذ ذلك من المهانة التي لا يليق بذي الكرامة أن يتعرض لها!. مع أن كثيرا من أصحاب هذا المسلك أصحاب ملكات نفسية، ولكنهم لا يحسنون استخدامها، فشأنهم شأن صاحب المال الذي لا يجيد استثماره فيصير حملا ثقيلا إذ نفعه ضئيل بركوده وخطره عظيم بما يجب فيه من الحقوق فإن النعمة إذا عظمت عظم الابتلاء بتبعاتها الشرعية، فالتكليف يزيد بزيادتها طردا، وكذلك أولئك الذين أوتوا ملكات نفسية ولم يحسنوا استعمالها فإنهم يوقعون أنفسهم في مآزق محرجة، وقد كان لي زميل في الجامعة من هذا الطراز: فكان شديد الصرامة في ظاهره، مع كونه صاحب ملكات نفسية جيدة في باطنه، فكان شاعرا يسمع الزملاء بعض أشعاره الرقيقة! مع أنه قد لا يحسن أن يتمثل ولو طرفا منها في الخارج فهي ملكات حبيسة لم يشأ الله، عز وجل، لها أن تنطلق، والرب، جل وعلا، قد نوع في الأخلاق مئنة من قدرته على الخلق والإبداع على غير مثال سابق، فالتنوع في الأرواح كالتنوع في الأبدان. واستخراج هذه الملكات النفسية الحبيسة يحتاج دربة طويلة، وإنما العلم بالتعلم، وفي هذا الباب يقال: إنما الحب بالتحبب، وإنما الود بالتودد خصوصا، وإنما الخُلُق بالتخلق عموما. و: التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا مُسْتَحْسَنٌ طَبْعًا، كما حكى صاحب "غذاء الألباب"، فإن الشرع مكمل للفطرة فلا يعارضها بل يزكيها وينميها ويجعلها دينية شرعية بعد أن كانت جبلية طبعية.

وكثير من دعاوى المحبة تسقط مع أول نازلة، ولا يعني ذلك أن يقطع الإنسان مادة الخير في نفسه عن إخوانه إن كان له منها نصيب فيسيء الظن بهم جميعا لأنهم لن يقفوا بجواره إذا نزلت به نازلة!، أو يطالبهم بما لا يقدرون عليه من المحبة لمجرد أنه قد أفرط في حبهم فما ذنبهم إذ أخطأ التصور فغلا في باب يحسن فيه التوسط والاقتصاد؟!، وإنما الواجب على الإنسان ألا ينطق بكلمة المحبة لا سيما إن كانت برسم الديانة إلا إذا كان متيقنا من محبته، فإن لها تبعات، فليست كلمة تطلق بل لا بد أن يبتلى صاحبها ليظهر أصادق هو أم كاذب، فتلك سنة الله، عز وجل، في كل دعوى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، فإن لم ينطق بها ابتداء فقد كفي مؤنة الابتلاء، فلا يضيره ألا ينطق بها إذ لم يشأ الله، عز وجل، خلقها في قلبه، فإنها كأي فعل آدمي يخلقه الرب، جل وعلا، في المحال التي يقوم بها، فيخلق في قلب فلان محبة فلان، فيحبه ولو لم يعرفه من قبل، ويخلق في قلب آخر بغضه، فيبغضه ولو لم يعرفه أيضا من قبل، فذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"، وتلك من الفراسة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتا ظاهرا تبعا لصفاء نفوسهم من الأكدار والأغيار وأشرف أجناسها الفراسة الإيمانية، ومن وجدها في نفسه فلا ينطق بها حتى يعلم تبعاتها، فإنها عقد مودة يلزم صاحبه بما لا يقدر عليه كل أحد، وكم نشأت صداقات برسم المصلحة الآنية أو المشاكلة الطبعية، فكل يبغي حظه من الآخر ثم انتهت بمجرد استيفاء كل حظه، والصداقات الجامعية، أو الزمالة، إن صح التعبير فلم يرتق معظمها إلى حد الصداقة، خير شاهد على ذلك، وأما إن قيلت له فليس له إلا إحسان الظن بقائلها إن كان من أهل الصدق،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير