تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأماراته لا تخفى على كل ذي لب، فليحملها منه على أحسن المحامل، فينزله منزلة المجتهد فإن أصاب في محبته فله أجران وإن أخطأ فله أجر، فلا يغلق بابه دونه في زمن عز فيه أهل الفضل، والاحتياط مع أهل الفضل: عدم الاحتياط، وليكن مع غيرهم على طريقة أبي الطيب:

وكن على حذر للناس تستره ******* ولا يغرك منهم ثغر مبتسم

وليلتمس له الأعذار إن قصر، فلم يؤد حقها، فالصوارف في زماننا كثيرة، فلا تطلب من غيرك ما لا يطيق، فتشق عليه، بدعوى المحبة، فله منك الفضل ما استطعت إلى ذلك سبيلا فإن لم يكن فالعدل، ولتقنع منه بالعدل فإن كانت نفسك كبيرة فلترضه وتحمده وإن قصر، فإن المحب الصادق لا ينتظر عوضا في هذه الدار، خشية أن يكون حسنات عجلت فيكون من أهل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، وحقيقة الحب في الله، كما يقول يَحْيَى بْن مُعَاذ رحمه الله: أن لَا يَزِيد بِالْبِرِّ وَلَا يَنْقُص بِالْجَفَاءِ.

فمن يملك النجاح في هذا الامتحان العسير، ومن يرضى من حبيبه بالإساءة رضاه بالإحسان محتسبا ثواب ذلك عند الرب العلي، جل وعلا، فما أحبه إلا فيه، فليس لنفسه حظ في تلك المحبة؟!.

وقد ضرب بعض الفضلاء المعاصرين مثلا سديدا لذلك بمحنة ابن تيمية، رحمه الله، وقد مات في السجن فخرجت دمشق كلها في جنازته، فكل محب، مع أن أحدا منهم لم يخرج في محنته!، فكلهم يخشى على نفسه من السلطان، فلعله عَذَرَهُم إذ لم ينتظر منهم شيئا مقابل إحسانه وتلطفه معهم وهو أمر قد علم من سيرته.

وما قيل في محنته يقال في محنة الرئيس المقدم والإمام المبجل: أحمد بن حنبل، رحمه الله، فقد خرجت بغداد هي الأخرى كلها في جنازته، مع أنها لم تهب لنجدته يوم امتحنت الأمة في نفسه الشريفة فأبى أن يجيب، ونهى عن الانتصار له من المأمون لئلا يجر على الناس شرا بذلك، مع عظم ما أنزله المامون والمعتصم به من النكال، وذلك شأن النفوس الكبيرة التي تحتمل في نفسها ما لا تحتمل في غيرها، فتدرء المفسدة العظمى عن غيرها بتحمل المفسدة الصغرى في نفسها فلم يكن الإمام، رحمه الله، مع عظم إحسانه إلى الخاص والعام، ينتظر مقابلا من أحد في هذه الدار.

ومن ذاكرة التاريخ يرى الناظر في قصص المتحابين في الله، عز وجل، عجبا: فتأمل حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه الأول صديق الأمة الأعظم، وقد جمعتهما صداقة نادرة قبل الرسالة، فلما بعث صلى الله عليه وعلى آله وسلم صارت المحبة برسم الديانة فازدادت كمالا على كمال، ومع ذلك قال عليه السلام: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ"، فاحتمل المحل الزكي الواسع تلك المحبة العظيمة دون أن تزاحم مقام الخلة، وتأمل حال المحل الثاني وقد احتمل محبة: "إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، فلم تزاحم محبة الرب، جل وعلا، إذ كانت فيه خالصة فـ: "أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ".

وتلك قلوب صنعها الوحي على عينه، فاختارها الرب، جل وعلا، لتكون مهبط رسالته ومستودع شريعته.

وفي العصر الحاضر كم أحب أناس غيرهم بصدق، ولكنهم عجزوا عن نصرتهم لما وقع عليهم الضيم، وذلك أمر تجده الجماعات ويجده الأفراد على حد سواء، ولك أن تتخيل على سبيل المثال ما نزل بأهلنا في البلقان أو العراق على وجه التحديد فقد كانت المحنة فيهما شديدة، ولك أن تتخيل ما كان أولئك ينتظرونه من إخوانهم، وما قدمه إخوانهم في المقابل من نكول وإعراض، وربما استخفاف في بعض الأحيان وربما تآمر بعضهم عليهم من طرف خفي!، فهل اتسعت قلوبهم فأدركوا أن كثيرا من إخوانهم قد تألموا لمصابهم ولكنهم عجزوا عن نصرتهم، أو أنهم وجدوا عليهم، ولا يلامون على ذلك لعظم الخطب؟!، فذلك سؤال يجيب عنه أهل الابتلاء العام أو الخاص الذين قعد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير