تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الفتى القرشي"، فأنى يدرك من فاته الشافعي عقل الشافعي؟!، وهو الذي استنصر به أهل الحديث في بغداد فـ: "كان أصحاب الحديث رقودا حتى جاء الشافعي فأيقظهم فتيقظوا"، وما كانوا يحسنون الرد على أهل الرأي حتى جاءهم الشافعي ففتح لهم، فلولاه ما عرفوا فقه الحديث وناسخه من منسوخه كما أثر عن أحمد رحمه الله، وانتصاره للسنة معروف، وتناوله لحجية خبر الآحاد في رسالته مسطور، وهو المقدم في تفسير آي الكتاب العزيز فـ: "إذا أخذ الشافعي في التفسير كان كأنه شاهد التنزيل".

وهو الذي كان بمصر: يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف، رضي الله عنه.

وعنه يقول محمد بن عبدالحكم: ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر فيبين لهم معانيه. وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل إعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.

فله من ملكات الديانة والخلق ما صير المحل قابلا لتلك العلوم الشريفة فضلا عن نظره في أشرف علوم البدن، فقد كان ذا عناية بعلم الطب، فجمع فقه البدن إلى فقه الدين، في صورة من صور التكامل بين العلوم الإلهية والعلوم التجريبية، فإن الفصل بينهما، لم يعهد، كما تقدم، إلا في أعصار الركود المتأخرة.

والشافعي هو الشافعي!، ولست شافعيا، ولكن الشافعية أهل للغبطة بل الحسد على إمامهم ومقدمهم ذلكم الفتى المطلبي ذي الثوب الأبيض والوجه المشرق الذي تعلوه سمرة خفيفة.

ومبحث كمبحث العلة في علم الأصول يظهر مدى دقة الباحث المسلم في تحديد الوصف المؤثر الذي يدور الحكم معه وجودا وعدما، فالحكم قد يكون تعبديا لا تدرك العقول علته، فيصير على وزان الأخبار الإلهية التي يدرك العقل معانيها ولا تدرك الحواس حقائقها، فذلك من تمام معنى الابتلاء في هذه الدار بالتصديق بما يحار العقل في كنهه لا بما يحيله العقل كما في ملل أخرى جعلت مناط الإيمان: تمام التسليم ولو لمحال لا يتصوره العقل ابتداء فضلا عن أن يجوز بل يوجب وقوعه فلا تحصل النجاة إلا بتصديقه!، وذلك من التناقض الفاحش بين النقل والعقل، وهو الذي طال أصحاب الملل والنحل، وسلم منه أهل الإسلام والسنة فلا ينظر منصف في أخبارهم المنقولة وأحكامهم المعقولة إلا أورث طمأنينة افتقدها قبل أن يهتدي إلى طريقتهم في الاستدلال والحكم.

وقد ينص الشارع، عز وجل، على العلة قطعا أو ظنا، فلا اجتهاد للعقول في تحصيل الحاصل، وقد لا ينص عليها لتتمايز العقول في بحثها عنها، بسبر أوصاف المحل وتقسيمها، وترداد النظر فيها لتحديد الوصف المؤثر الذي يصلح لتعليق الحكم عليه، وهي عملية عقلية دقيقة يستعملها كل باحث عن العلة المؤثرة في أي فرع من فروع المعرفة شرعية كانت أو طبيعية، فهي تخريج لمناط حكم لم ينص على علته، ولأهل الأصول: تأصيل دقيق لها ومباحث عقلية محكمة فيها من قبيل: تنقيح المناط المنصوص عليه من شوائبه من الأوصاف الطردية التي لا تصلح لتعليق الحكم عليها، ثم تحقيقه بعد ذلك في فرع حادث استثمارا لذلك الناتج العقلي بتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع للعلة الجامعة بينهما، وتلك العمليات العقلية المحكمة هي حجر الزاوية في أي بحث علمي، كما تقدم، ولذلك: "كان لهذه البحوث أبلغ الأثر في النزعة التجريبية التي أثمرت في تحديد أصول المنهج التجريبي عند المسلمين، ثم في الإعلاء من قيمة هذا المنهج واستخدامه بصفة عامة". اهـ

بتصرف من: "أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص212.

وقد وضع الأصوليون في مرحلة تالية آدابا عامة للبحث والمناظرة والجدل استكمالا لهذا البناء الفكري، للرد على الخصوم كما أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون، رحمه الله، بقوله في مبحث "الجدل" من مقدمته:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير