ثم عَلَل اخْتِيَارَه بِقَوله: وإنّما قُلْنَا ذَلك أوْلى الأقْوَال بِالصِّحَّة في ذَلك لأنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤه أوْعَد أهْل الشِّرْك بِه الْخُلُود في النَّار، وتَظَاهَرَتْ بِذلك الأخْبَار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَغَيْر جَائز أن يَكُون اسْتِثْنَاء في أهْل الشِّرْك، وأنَّ الأخَبْار قد تَوَاتَرَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الله يُدْخِل قَومًا مِن أهْل الإيمان بِه بِذُنُوب أصَابُوها النَّار ثم يُخْرِجُهم مِنها فَيُدْخِلهم الْجَنَّة، فَغَيْر جَائز أن يَكُون ذَلك اسْتِثْنَاء أهْل التَّوحِيد قَبْل دُخُولِها مَع صِحَّة الأخْبَار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا ذَكَرْنا.
وأكَّد على الْخُلُود الأبَدِيّ للكُفَّار في النَّار، حَيث قَال في آيَة " الأحزاب ": (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يَقُول: مَاكِثِين في السَّعِير أبَدًا إلى غَيْر نِهَايَة. اهـ.
وأوْرَد السمعاني سُؤالا عن مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة " الأنعام "، فَقَال: فَإن قَال قَائل: ألَيس أنَّ الكَافِرِين خَالِدُون في النَّار بِأجْمَعِهم، فَما هَذا الاسْتِثْنَاء؟
الْجَوَاب: قال الفراء هو مِثل قَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ) يَعْنِي مِن الزِّيَادَة على مُدَّة دَوَام السَّمَاوَات والأرْض. فَهَذا هُو الْمُرَاد بِهَذِه الآيَة أيضَا.
وقِيل: الاسْتِثْنَاء في العَذَاب، يَعْنِي: خَالِدِين في نَوْعٍ مِن العَذَاب إلاَّ مَا شَاء الله مِن سَائر العَذَاب.
وقِيل: هو اسْتِثْنَاء مُدَّة البَعْث والْحِسَاب لا يُعَذَّبُون في وَقْت البَعْث والْحِسَاب.
واسْتَدَلّ على مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة " هُود" بِمَا جَاء في السُّنَّة، فَقَال: وقَوله: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) أمَّا بِالْمَعْنَى الْمَأثُور؛ رَوَى الضحاك عن ابن عباس أنَّ الآيَة نَزَلَتْ في قَوْم مِن الْمُؤمِنِين يُدْخِلُهم الله تَعالى النَّار، ثم يْخُرِجُهم مِنها إلى الْجَنَّة، ويُسَمَّون الْجَهَنَّمِيِّين. وقد ثَبَت بِرِوَاية جَابِر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَال: يُخْرِج الله قَوْمًا مِن النَّار قد صَارُوا حُمَمًا فيُدْخِلهم الْجَنَّة. وفي البَاب أخْبَار كَثِيرَة.
فَعَلى هَذا القَوْل: مَعْنَى الآيَة: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) هَؤلاء الذِين أُدْخِلُهم النَّار ... (خَالِدِينَ فِيهَا) مُقِيمِين فِيها (مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) عَبَّر بِهَذا عن طُول الْمُكْث.
ويَرَى أنَّ الاسْتِثْنَاء وَقَع على مَا بَعْد الإخْرَاج مِن النَّار بِشَفَاعَة الأنْبِيَاء والْمُؤمِنِين.
وذَكَر الثعلبي ثَمَانِيَة أقْوَال في مَعْنَى الاسْتِثْنَاء في آيَة " الأنعام "، وهي:
الأوَّل: قَدْر مُدَّة مَا بَيْن بَعْثِهم إلى دُخُولِهم جَهَنَّم.
الثَّاني: قَول ابن عباس، هذا الاسْتِثْنَاء هو أنّه لا يَنْبَغِي لأحَدٍ أن يَحْكُم على الله في خَلْقِه، لا ينزلهم جَنَّة ولا نَارًا.
الثَّالث: قَول الكَلبي: إلاَّ مَا شَاء الله، وكَان مَا شَاء الله أبَدًا.
الرَّابِع: قيل: مَعْنَاه النَّار مَثْوَاكم خَالِدِين فِيها سِوى مَا شَاء الله مِن أنْوَاع العَذَاب
الْخَامِس: قِيل: إلاَّ مَا شَاء الله مِن إخْرَاج أهْل التَّوْحِيد مِن النَّار.
السَّادس: قِيل: إلاَّ مَا شَاء الله أن يَزِيدَهم مِن العَذَاب فِيها.
السَّابع: قِيل: إلاَّ مَا شَاء الله مِن كَوْنِهم في الدُّنيا بِغَيْر عَذَاب.
الثَّامن: قَول عَطَاء: إلاَّ مَا شَاء الله من الحق في عَمَله أن يُؤمِن (1)، فَمِنْهم مَن آمَن مِن قَبْل الفَتْح، ومِنْهم مَن آمَن مِن بَعْد الفَتْح. اهـ.
----
(1) هكذا في المطبوع، وهي عِبارَةٌ قَلقة! وكأنَّ صَوابها: إلاَّ من شاء الله في عِلْمَه أن يُؤمِن. ونَقَل الرازي في تفسيره (13/ 158) عن ابن عباس قوله: اسْتَثْنَى الله تعالى قَومًا سَبَق في عِلْمَه أنّهم يُسْلِمون ويُصَدِّقُون النبي صلى الله عليه وسلم
وقَال الشنقيطي في الْجَمْع بَيْن الآيَات: والْجَوَاب عن هَذا مِن أوْجُه:
¥