نصيب وافر، ويتفاوت الناس في ذلك تبعا لتفاوت سيرهم على طريقة النبوة أخبارا وأحكاما، فمن كان ألزم لها كان أحق بالدخول في عموم الوصف المذكور في الآية، فالعلة التي قد علق عليها الحكم علة عالمية تجوز في حق أي مكلف، فوصف الإسلام: وصف عالمي لا يختص بأمة من الأمم، وإن نزل ابتداء على العرب، فذلك، كما تقدم، لا ينفي حق غيرهم فيه، إذ ليست العروبة هي العلة التي علق عليها الحكم ليصح الاستدلال بهذة الآية على تعصب وعنصرية الإسلام، وإنما نشأت هذه الشبهة من شؤم تعظيم دعاوى الجاهلية المفرقة من قومية وشيوعية ............ إلخ، وتحقير دعوى الإسلام الجامعة، فظن من ظن جهلا أو سوء طوية أن الإسلام إن صح كونه دينا سماويا هو: دين العرب فلا تناسب أحكامه البدائية، زعموا!، منجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة!، وإنما يؤتى المرء من قبل جهله.
ويقال من جهة أخرى: إن الخبر في الآية إنشائي الدلالة إذ الخيرية مقيدة بالحال: "تأمرون" التي جاءت على حد المضارعة إمعانا في استحضار صورة القيد محط الفائدة فضلا عن وجوب الاستمرار عليه لدلالة المضارع الوضعية على الحال والمستقبل فذلك آكد في مقام تقرير الأحكام، فليست خيرية مطلقة، بل هي مقيدة بوصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الترجمة العملية لحركة القلب العلمية حبا للمعروف يستوجب الأمر به، وبغضا للمنكر يستوجب النهي عنه قدر الطاقة.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو من الدين فإن رسالة الله إما إخبار وإما إنشاء.
فالإخبار عن نفسه عز و جل وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد والإنشاء: الأمر والنهي والإباحة.
وهذا كما ذكر في الحديث أن: (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن لتضمنها الثلث الذي هو التوحيد لأن القرآن: توحيد وأمر وقصص.
وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) هو لبيان كمال رسالته فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث.
ولهذا روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقال في الحديث المتفق عليه: "إنما مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ويقولون: لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة".
فبه أكمل الله الدين المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث". اهـ
"الاستقامة"، ص445_447.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلق بالجانب الإنشائي من هذه الرسالة، فالأمر إنشاء، والنهي إنشاء، وهو في حقيقته لا بد أن يستند إلى خبر سابق، كما ذكر ذلك بعض الفضلاء المعاصرين، فإن منشأ الأمر والنهي: خبر، فإذا ورد خبر الوعد فإنه ينشئ الأمر بالفعل لزوما، وإلا صار الكلام لغوا، إذ ما فائدة التنويه بفضيلة دون أن يلزم من ذلك الأمر بها؟!، فالمسألة من باب التصور والحكم، فالخبر: تصور علمي باطن، والإنشاء: حكم عملي ظاهر، فيتولد من التصور صحيحا كان أو فاسدا: حكم على حده من الصحة أو الفساد، فللفرع حكم أصله بداهة.
وكذلك إذا ورد خبر الوعيد فإنه ينشئ النهي عن الفعل لزوما.
وقل مثل ذلك في خبر وصف جمال الرب، تبارك وتعالى، فإنه مما يقوي جانب الرغبة في العبد رجاء أن يناله من آثار ذلك الوصف ما تحصل به له الكفاية في الدنيا بالعيش الهانئ، وفي الآخرة بالمقام الدائم في جوار الرحمن تبارك وتعالى، فهو خبر في أصله لم يخل من دلالة إنشائية، ولو بطريق اللزوم، فالتصديق بالإلهيات أول درجات امتثال الشرعيات.
وأما وصف جلاله، عز وجل، فإنه مما يقوي جانب الرهبة في العبد حذرا أن يناله من آثار ذلك الوصف ما يوبق دنياه وأخراه.
¥