وهكذا من بعدهم إلى عصرنا الحاضر ولله الحمد والمنة.
فحلق تعليم العلم في المساجد موجودة من عصر النبوة، ولها أهميتها الكبيرة وفائدتها العظيمة حيث إنها في السابق خرجت العلماء الذين حفظ الله تعالى بهم الدين من عصر الصحابة إلى حاضرنا وعصرنا.
ولا أريد أن أذكر أسماء من تخرجوا من هذه الحلق العلمية سواء في مدينة النبي e أو غيرها فإن هذا أمر معروف ومتقرر لا يحتاج – هنا – إلى ذكر.
هذا أمر من الأمور المهمة.
والأمر الثاني: هو أن حلق العلم وتعليمه لابد أن تكون متميزة بالمنهج العلمي الصحيح حتى تؤتي ثمارها اليانعة، وتبرز آثارها الطيبة.
وذلك أن التأصيل العلمي مهم للغاية، وتكلم عنه العلماء قديماً وحديثاً وذكروه في كتبهم.
حيث ذكروا أنه يبدأ بحفظ كتاب الله تعالى، ويحرص على اتقانه ثم يبدأ بالأهم من العلوم ثم الذي يليه، وألا ينتقل من فن إلى فن آخر ولا من كتاب إلى كتاب آخر إلا بعد اتقانه حفظاً وشرحاً.
وألا يشتغل في أول أمره بمسائل الاختلاف بين العلماء فإنه يحير الذهن، وأن يبدأ بالمختصرات ثم يشرع بعدها بالمطولات وأن يحرص على حفظ المتون فإنه كما قيل: (من حفظ المتون حاز الفنون) إلى آخر ما ذكره العلماء في هذا المجال، يقول العلامة ابن جماعة الكناني رحمه الله: " وقد ذكر فصلاً في آداب المتعلم في درسه وقراءته وذكر فيه أنواعاً: منها أن يبتدئ بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظاً ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها.
ثم يحفظ في كل فن مختصراً ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب ابتداءً وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير اكثار يُمل، ولا تقصير يخل بجودة التحصيل
وأن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقاً في العقليات والسمعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل بل يتقن أولاً كتاباً واحداً في فنٍ واحد، أو كتباً في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة يرتضيها له شيخه وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه.
وكذلك يحذر من التنقل من كتاب إلى كتاب من غير موجب فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح.
ومن الأمور المهمة، أن يصحح ما يقرؤه قبل حفظه تصحيحاً متقناً إما على الشيخ أو على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظاً محكماً ثم يكرر عليه بعد حفظه تكراراً جيداً ثم يتعاهده في أوقات يقررها لتكرار مواضيه.
ثم إذا شرح محفوظاته المختصرات، وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات، انتقل إلى بحث المبسوطات على المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة والفروع الغريبة، وحلِّ المشلاكت والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل بفائدة يسمعها أو يتهاون بفائدة يضبطها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها.
ولتكن همته في طلب العلم عالية فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكَّن منها، أو يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر حصل في الزمن الثاني غيرها.
ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه، ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة.
قال عمر رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تسوودوا) ().
وليحذر من نظره نفسه بعين الكمال والاستغناء عن المشايخ فإن ذلك عين الجهل وقلة المعرفة، وما يفوته أكثر مما حصله.
قال سعيد بن جبير – رحمه الله تعالى -: (لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى فهو أجهل ما يكون).
وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته، ومر على أكثر كتب الفن المشهورة منها بحثاً ومراجعةً ومطالعةً، اشتغل بالتصنيف.
ومن الأمورالمهمة: أن يلزم حلقة شيخه في التدريس والإقراء، بل جميع مجالسه إذا أمكن فإن ذلك لا يزيده إلا خيراً أو تحصيلاً، وأدباً وتفضيلاًَ.
¥