وأما إذا كان من أهل الشغف بالرسوم أشير إليه بأنه عالم فموه على الناس وأنزل نفسه منزلة العلماء المحققين وجلس للتعليم فيأتيه الطالب بكتاب مطول أو مختصر فيتلقاه منه سردا لا يفتح له منه مغلقا ولا يحل له طلسما فإذا سأله ذلك الطالب المسكين عن حل مشكل انتفخ أنفه وورم وقابله بالسب والشتم ونسبه إلى البهائم ورماه بالزندقة وأشاع عنه أنه يطلب الاجتهاد
ومن أولئك من لا يروم الحماقة لكنه يقول إننا نقرأ الكتب للتبرك بمصنفيها وأكثر هؤلاء هم الذين يتصدرون لأقراء كتب المتصوفة فإنهم يصرحون بأن كتبهم لا يفهمها إلا أهلها وأنهم إنما يشغلون أوقاتهم بها تبركا
ولعمري لو تبرك هؤلاء بكتاب الله المنزل لكان خيرا لهم من ذلك الفضول وهؤلاء كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
ومنهم من يكون داريا بالمسائل وحل العبارات ولكنه متعاظم في نفسه فإذا جاءه طالب علم الفقه أحاله على شرح منتهى الإرادات إن كان حنبليا وعلى الهداية إن كان حنفيا وعلى التحفة إن كان شافعيا وعلى شرح مختصر خليل للحطاب إن كان مالكيا ثم إن كان مبتدئا صاح قائلا إلى الملتقى يوم الدين
وإن كان ممن زاول العربية وأخذ طرفا من فن أصول الفقه انتفع انتفاعا نسبيا لا حقيقيا
وقد تفطن فلاسفة المسلمين لهذا الداء فألف أبو نصر الفارابي رسالة في كيفية المدخل إلى كتب أرسطاطاليس الفلسفية وحذا حذوه قوم من علماء الشرع فأثبتوا نتفا من الكلام في هذا الموضوع إذ غاية أمرهم أنهم يتكلمون على الفنون فيذكرون الكتب المختصرة في الفن والمتوسطة والمطولة وربما كان ما ذكروه مشهورا في أيامهم ثم عز وجوده وانقطع خبره ثم إنه بعد الألف من الهجرة ألف الفاضل المحدث الشيخ أحمد المنيني الدمشقي كتابا لطيفا سماه الفرائد السنية في الفوائد النحوية وأشار فيه إلى طرف من آداب المطالعة وقد لخصت ذلك الطرف في رسالة وزدت عليه أشياء استفدتها بالتجربة وسميت تلك الرسالة آداب المطالعة وذكرت أيضا جملة كافية في مقدمة كتابي إيضاح المعالم من شرح العلامة ابن الناظم الذي هو شرح ألفية ابن مالك في النحو وحيث إن كتابي هذا مدخل لعلم الفقه أحببت أن أذكر من النصائح ما يتعلق بذلك العلم
فأقول: لا جرم أن النصيحة كالفرض وخصوصا على العلماء فالواجب الديني على المعلم إذا أراد إقراء المبتدئين أن يقرئهم أولا كتاب أخصر المختصرات أو العمدة للشيخ منصور متنا إن كان حنبليا أو الغاية لأبي شجاع إن كان شافعيا أو العشماوية إن كان مالكيا أو منية المصلي أو نور الإيضاح إن كان حنفيا ويجب عليه أن يشرح له المتن بلا زيادة ولا نقصان بحيث يفهم ما اشتمل عليه ومأربه أن يصور مسائله في ذهنه ولا يشغله مما زاد على ذلك
وقد كانت هذه طريقة شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عثمان الحنبلي المشهور بخطيب دوما المتوفى بالمدينة المنورة سنة ثمان وثلاثمائة بعد الألف
وكان رحمه الله يقول لنا: لا ينبغي لمن يقرأ كتابا أن يتصور أنه يريد قراءته مرة ثانية لأن هذا التصور يمنعه عن فهم جميع الكتاب بل يتصور أنه لا يعود إليه مرة ثانية أبدا.
وكان يقول: كل كتاب يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة فحقق مسائل ما دونه لتوفر جهدك على فهم الزيادة انتهى.
ولما أخذت نصيحته مأخذ القبول لم أحتج في القراءة على الأساتذة في العلوم والفنون إلى أكثر من ست سنين فجزاه الله خيرا وأسكنه فراديس جنانه
فإذا فرغ الطالب من فهم تلك المتون نقله الحنبلي إلى دليل الطالب والشافعي إلى شرح الغاية والحنفي إلى ملتقى الأبحر والمالكي إلى مختصر خليل وليشرح له تلك الكتب على النمط الذي أسلفناه فلا يتعداه إلى غيره لأن ذهن الطالب لم يزل كليلا ووهمه لم يزل عنه بالكلية والأولى عندي للحنبلي أن يبدل دليل الطالب بعمدة موفق الدين المقدسي إن ظفر بها ليأنس الطالب بالحديث ويتعود على الاستدلال به فلا يبقى جامدا ثم إذا شرح له تلك الكتب وكان قد اشتغل بفن العربية على النمط المتقدم أوفقه هنالك وأشغله بشرح أدنى مختصر في مذهبه في فن أصول الفقه كالورقات لإمام الحرمين وشرحها للمحلى دون مالها من شرح الشرح لابن قاسم العبادي والحواشي التي على شرحها فإذا أتمها نقله إلى مختصر التحرير إن كان حنبليا مثلا ويتخير له من أصول مذهبه ما هو أعلى من الورقات وشرحها فإذا أتم شرح ذلك أقرأه الحنبلي الروض المربع بشرح
¥