ولا بد من المختصرات قبل المطولات فلا بد من الأصول أولا وبعدها الفروع، وهذا التدرج على أنواع منه أن يبدأ بالقليل ثم الكثير وان يبدأ باليسير ثم بالعسير، حتى لا تنقبض نفسه أو تصيبه المكابرة، ولذلك قيل في ترجمة كتاب العلم من صحيح البخاري: "الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره "، والمراد بصغار العلم ما وضح من المسائل والكبائر ما دق منها، وقيل بعلمه جزيئاته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقصده.
وقال ابن خلدون: " اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً يلقى عليها، ولا مسائل من كل باب من الفن هي أصوله ويقرب له في شرحها إجمالاً، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول مايرد عليه وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف … الخ فتجود ملكته ".
الجدية والهمة
وحسبنا في ذلك كثير من التراجم والنماذج من ذلك يقول ابن حجر: " أنه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس عشر ساعات، وصحيح مسلم في أربع مجالس في نحو يومين، وشيء من بكرة النهار إلى الظهر، وانتهى ذلك في يوم عرفة يوم الجمعة عام 813 هـ ".
والفيروزأبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءةً ضبط في ثلاثة أيام.
وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الابار وغيرهم عجائب وغرائب يطول ذكرها.
ويذكر الإمام النووي عن نفسه أنه: " كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً ".
ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأولى أخذ علم واحد للنبوغ به وهناك من عنده همة تبلغ به ذلك، ولكن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه فكيف إذا أعطيته بعضك؟!
فأنت تعطيه بعض فضول الأوقات، وقوة الهمة ينبغي أن تكون على ما كانت عليه عند سلف الأمة، حتى قال بعضهم - وكان يطلب قراءة القرآن وأخذ القراءات - قال: " وكان الناس يسبقونني - أي إلى شيخ القراءات في دمشق - فعزمت على أن أكون سابقاً، فاستيقظت قبل الفجر الأول، ومضيت إلى المسجد وجئت، فإذا أنا الثلاثين فقد جاء قبله تسع وعشرون قد بكروا لذلك "
وكان من دأب علماء الأمة وطلاب العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر، ثم يصلون وتبدأ دروس أخرى، والشوكاني ذكر أنه كان يدرس ويدرس ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم كل يوم.
فطلب علم بلا همة لا يمكن أن يكون، ولذلك قيل يحتاج إلى العلم والتفقه إلى جد الثلاثة المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك، قال الشاعر:
تمنيت أن تُمسي فقيهاً مناظراً ... بغير عناءٍ فالجنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة ... تحملها فالعلم كيف يكون
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحار من طلب اللآلي
علو القدر بالهمم العوالي ... وعز المرء في سهر الليالي
تركت النوم ربي في الليالي ... لأجل رضاك يا مولى الموالي
ومن رام العلا في غير كد ... أضاع العمر في طلب المحال
فوفقنني إلى تحصيل علم ... وبلغني إلى أقصى المعالي
الإجتهاد والتورع
فإذا أردت أن تقول قولاً أو أن تبحث أمراً أو تضيء في مسألة، فلا يكون ديدنك أن تنظر إلى عنوان هذه المسألة في الكتب أو أن تسمع إلى قول مفرد فاصل فيها!
طالب العلم إذا سئل أن يجد ويجتهد ويبحث في هذه الكتب والمراجع، وأن يستعين بالله عز وجل.
وذكر البزار في " الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية "، يقول ابن تيمية عن نفسه: " إن كنت أقرأ في الآية مائة تفسير - أي يطلع على مائة تفسير - في هذه الآية ثم أخرج إلى بعض المساجد الخالية في أطراف دمشق، فأمرغ وجهي في التراب، فأقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، اللهم يا مفهم سليمان فهمني.
ليست المسألة أن تأخذ ما تيسر دون أن تعمل ذهنك وتجهد بصرك، كان السابقون إذا قالوا قولاً في مسألة فلا يقولونه إلا بعد استفراغ في الجهد والوقت بشكل كبير، ثم يقول بعد ذلك: هذا مبلغ علمي أو أحسبه كذلك ولا يصادر قول غيره.
المواصلة والإستمرار
¥