تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكذا كلام السلف في ذلك، فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول: "الرحمن على العرش استوى"، وعرشه فوق سبع سماوات، فقال: قلت: فإن قال: إنه على العرش، و لكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه: هو كافر، لأنه أنكر آية في السماء، ومن أنكر آية في السماء كفر، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اهـ.

وأيد القول بالفوقية أيضاً بأن الله تعلى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات، فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع، كان نفيها عين الباطل، لاسيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله تعالى ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: [يا الله] إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل -وأظنه قال: وبكى- وقال: حيرني الهمداني! وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضاً منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أنه هذا باطل، أما أولاً فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين، وأما ثانياً: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة، وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلاً لا يسمى قبلة أصلاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، ولم يثبت ذلك في شرع أصلاً، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بل هذا لا يخطر في قلب ساجد، نعم سمع عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علواً كبيراً.

وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم، وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه، من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، ونحو ذلك، وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه، وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، على

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير