إن تسهيل القرض بفائدة شجع الكثيرين على الإسراف وعدم الادخار، فإنه إذا كان يشجع على الادخار الآثم عند بعض الناس، فهو يشجع على عدم الادخار عند الآخرين، لأنه إذا كان المسرف يرى مَنْ يقرضه بالفائدة في أي وقت فإنه لا يرعوي، ولا يحسب حساب المستقبل بحيث يدخر في حاضره ما يحتاج إليه في قابله، وإن اضطرته حاجته يجد المصرف الذي يقرضه بفائدة الضامن الذي يضمنه ([8]).
4. الاضطراب النفسي المستمر:-
إن التعامل بالربا يوجد اضطراباً نفسياً مستمراً بالنسبة لآكل الربا وموكله على السواء، وإنه فوق ما يحدثه من اضطراب في النظام الاقتصادي يوجد قلقاً نفسياً مستمراً للمتعاملين، وهو بالنسبة لآكله ينبعث من جشعٍ أساسه الكسب من جهود غيره، وبالنسبة للآخر المستغل ينبعث من جشعٍ في كسبٍ ليس في مقدوره.
والجشع من طبيعته أن يحدث اضطراباً مستمراً في قلب الجاشع، وأحاسيسه ومشاعره، ولذلك قرر بعض الأطباء أنّ كثرة الأمراض التي تصيب القلب – فيكون من مظاهرها ضغط الدم المستمر أو الذبحة الصدرية أو الجلطة الدموية أو النزيف بالمخ أو الموت المفاجئ – سببها ذلك الاضطراب الاقتصادي الذي ولَّد جشعاً لا تتوافر أسبابه الممكنة… ولو اسْتُبدل بذلك النظام الاقتصادي – الذي يجعل المقرض آكلاً دائماً، والمقترض مأكولاً غارماً في أكثر الأحوال أو كثير منها – نظامٌ اقتصادي أساسه التعاون بين المقرض والمقترض في المغنم والمغرم لكان أجلب للاطمئنان وأعدل وأقوم وأهدى سبيلاً ([9]).
5. تخبط المرابي:-
قال تعالى:- " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" [البقرة: 275].
وهذه الآية وإن كانت ـ كما يقول كثير من المفسرين ـ تتحدث عن حال المرابي عندما يقوم من قبره وأن حاله يكون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، إلا أن النظرة المتأملة تهدينا إلى أن الحال التي يبعث عليها المرابي مناسبة للحالة التي كان عليها في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، فلما كان المرابي في دنياه يتخبط خبط عشواء، ويتصرف تصرفات خرقاء، كان حاله في الآخرة على الخط نفسه، قال الحرالي:-
(في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يُسلب عقله، ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرْقٍ لا بعقل، يُقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال) ([10]).
وقد عقب البقاعي على مقال الحرالي بقوله:-
(وهو مؤيد بالمشاهدة فإنا لم نر ولم نسمع بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم) ([11]). ([12]).
6. الجبن والكسل:-
فالمرابي جبان يكره الإقدام، ولذلك يقول المرابون والذين ينظرون لهم: إنّ الانتظار هو صنعة المرابي فهو يعطي ماله لمن يستثمره، ثم يجلس ينتظر إنتاجه لينال حظّاً معلوماً بدل انتظاره، وهو كسول متبلد لا يقوم بعمل منتج نافع، بل تراه يريد من الآخرين أن يعملوا ثم هو يحصل على ثمرة جهودهم ([13]).
7. قسوة القلب:-
إنَّ قلوب المرابين في بعض الأحيان تكون أقسى من الحجارة:- " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " [البقرة: 74].
لقد وصف الله آكل الربا بأنه كفار أثيم في قوله:- " يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم" [البقرة: 276].
وكفار وأثيم صيغتان من صيغ المبالغة تدلان على أن المرابي بلغ الغاية في الكفر ([14]) والإثم، وذلك أن المرابي كما يقول ابن كثير- رحمه الله-:-
(لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل) ([15]). ([16]).
وإنّ اهتمامات المرابي وتطلعاته وغاياته تدور حول أمر واحد هو مصالحه الذاتية، فلا تراه يحزن لدموع الثكالى، ولا لأنات الحزانى، ولا لأوجاع اليتامى، يرى البؤساء والفقراء، فلا يعرف من حالهم إلا أنهم صيد يجب أن تُمتص البقية الباقية من دمائهم.
ألم يصل الحال بالمرابين قساة القلوب إلى أن يستعبدوا في بعض أدوار التاريخ أولئك المعسرين الذين لم يستطيعوا أن يفوا بديونهم وما ترتب عليها من ربا خبيث؟.
¥