تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والهدف العام من دارسة دراز، هو الكشف عن الطابع العام للأخلاق النظرية والعملية في القرآن الكريم. وقد رأى المؤلف أن ينهج في دراسة الجانب الأخلاقي في القرآن الكريم منهجاً مختلفاً عن مناهج العلماء السابقين في التراث الإسلامي، فقد لاحظ أن التعاليم الأخلاقية في هذا التراث على نوعين: تمثل النوع الأول في النصائح العلمية، التي تهتم بالقيمة العليا للفضيلة، مثل رسالة ابن حزم "مداواة النفوس." أما النوع الثاني فتمثل في جهود بعض العلماء في وصف طبيعة النفس وملكاتها، وتحديد مراتب الفضيلة، بطريقة تتبع في الغالب نموذج أفلاطون أو نموذج أرسطو، مثل كتاب ابن مسكوية "تهذيب الأخلاق." كما لاحظ أن بعض العلماء من جمع بين المنهجين، كما في كتاب "الذريعة" للأصفهاني، وكتاب "إحياء علوم الدين للغزالي."

وبدلاً عن هذين الطريقين في تناول الموضوع، لجأ دراز إلى دراسة الأخلاق وفق المفاهيم السائدة لدى العلماء المتخصصين المحدثين، مع إعمال المرجعية القرآنية المباشرة. وموضوع الدراسة في السياقات المعاصرة، وفي سياق دارسة "دراز"، هو موضوع فلسفي، والفلسفة أفكار مترابطة نابعة من العقل، يتم بناؤها وفق منهج متسلسل، والهدف هو بناء نسق من المبادئ العامة التي تفسر ظاهرة من الظواهر النفسية، أو الاجتماعية، أو الطبيعية. ولا يستطيع الباحث أن يجد في القرآن الكريم نسقاً فلسفياً مدرسياً من هذا النوع؛ إذ إن للقرآن الكريم منهجه الفريد في تقديم الهداية وتيسيرها، بالاعتماد على الفطرة البشرية واستعداداتها، وإثارة الدافع النفسي الداخلي في بناء التطور الاعتقادي، والإيمان بالحقيقة الأخلاقية التي تفرض نفسها على الإنسان، بعيداً عن الأهواء والرغبات.

وقد جاء كتاب دراز في قسمين:

تناول القسم الأول النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن الكريم، وعالجها في خمسة فصول: الإلزام، والمسؤولية، والجزاء، والنية، والدوافع، والجهد البشري.

أما القسم الثاني فقد تناول فيه الأخلاق العملية وعالجها في خمسة فصول على أساس تصنيف فئات الأخلاق: إلى الأخلاق الفردية، والأخلاق الأسرية، والأخلاق الاجتماعية، وأخلاق الدولة، والأخلاق الدينية.

لقد كان أساس البحث في الكتاب هو النظرية الأخلاقية، وحدد المؤلف عناصر خمسة هي: موضوعات الفصول الخمسة من القسم الأول المشار إليها، بوصفها "الأجزاء التكوينية ... والعُمُد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية." وقد تبين للباحث أن الأخلاق القرآنية شملت جميع وجوه النشاط الإنساني. وقد فرّق المؤلف بين جانبِ الامتداد في شمول الأخلاق للنشاط الإنساني، فيما يظهر من سلوكه الخارجي في الميدان الحيوي والاجتماعي، وهو المجال الأوسع والأرحب، وجانبِ العمق في شمول هذه الأخلاق لحياة الإنسان الباطنية؛ إذ يبتغي حب الله، ويستوحي أمره ورضاه في كل موقف.

في المنهج القرآني يتحرك الضمير البشري في تعامله مع قضايا الإلزام الأخلاقي بدوافع المسؤولية التي تجمع بين المثال والواقع، وبين متطلبات الوجود المادي للإنسان ووجوده الروحي، وبين طموحاته الفردية ومصالح مجتمعه. والإنسان في النهاية يقوم بالفعل ويمارس السلوك؛ طلباً لصور من الجزاء الذي يتحقق بعضها مباشرة، عندما يرى أثر السلوك الخيّر ونتيجته، سمواً في المشاعر، ورضاً في الضمير، ويطمع أن يتحقق بعضها الآخر ثواباً وأجراً عند الله. وفي كل الأحوال، فإن الحاكم على طبيعة الجزاء على الفعل الأخلاقي، هو الباعث الداخلي على الفعل، وهو "النية الصالحة."

وهكذا تقوم القيم الخلقية على قاعدة من خصائص الفطرة البشرية، والباعث النفسي الداخلي؛ فالخالق سبحانه ألهم النفس فجورها وتقواها، حتى تتمكن من التمييز بين الخير والشر، والجميل والقبيح، والنافع والضار. والخالق سبحانه مكّن الإنسان من حرية اختيار السلوك على أساس تلك المعرفة التمييزية. وتنبعث في نفس الإنسان مشاعر متفاوتة نتيجة ذلك السلوك، ألا ترى أن النفس ترتاح وتأنس لسلوك الخير، وتضطرب وتأسى وتتكدر لسلوك الشر!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير