هذه المنهجية في التأصيل التي تعتمد الوحي مصدراً هادياً، سوف توجّه الإنسان المسلم إلى اختيار أولويات البحث بحكمة ورشد، وإلى ممارسة أخلاقيات البحث ضمن القيم العليا، والمقاصد العامة للدين، وإلى توظيف نتائج البحث في بناء الأمة، وتطور المجتمع، وترشيد الحضارة الإنسانية. وعندها يمكن لحركة العلم والتقانة، أن تسلم من التجاوزات التي رافقت حركة التقدم في التاريخ البشري، والتي جعلت من القرن العشرين -وهو قرن التقدم العلمي المذهل- أكثر قرون الزمن الإنساني دماراً، ودماءً، ومعاناةً بشرية.
هذه المنهجية في التأصيل إذن، هي نظر وبحث في كتاب الوحي، وفي كتاب الكون، وفي تراث السابقين واللاحقين من مسلمين وغير مسلمين، وحين تتدرج هذه المعارف التي يكتسبها الإنسان من هذه المصادر في تكاملها وتقاطع دلالاتها، فإنها تتحاور في قلب المسلم وعقله، وتترقَّى به، ويترقَّى بها، في مستويات الاستيعاب، ثم التجاوز، للوصول إلى الأصيل الجديد.
مفهوم التأصيل عند "دراز":
حين نختار مصطلح التأصيل الإسلامي، في الحديث عن كتاب محمد عبد الله دراز "دستور الأخلاق في القرآن" وليس مصطلحاً آخر، فذلك لأن المؤلف كان يبحث عن جوانب "الأصالة" في طريقة عرض القرآن الكريم للتعليم الأخلاقي، وقد تحدث عن ثلاثة جوانب من هذه الأصالة، تُنْبئُنا عن دلالة مصطلح الأصالة لدى "دراز". الجانب الأول من هذه الأصالة: أن القرآن قد تميز عن الكتب والرسالات السابقة "بذلك الامتداد الرحب الذي ضم فيه جوهر القانون الأخلاقي كله، وهو الذي ظل متفرقاً في تعاليم القديسين والحكماء، من المؤسسين والمصلحين، الذين تباعد بعضهم عن بعض، زماناً ومكاناً، وربما لم يترك بعضهم أثراً من بعده يحفظ تعاليمه."
والجانب الثاني من أصالة القرآن الكريم فيما يتعلق بالتعليم الأخلاقي، ماثل في: "طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام، وذلك لأنه نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطاً أو تفريطاً، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها ... دفعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقاً أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق."
أما الجانب الثالث فكتب عنه: "وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع لكي نصف أخلاق القرآن-أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلاقهم، بل ينبغي أن نضيف: أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجمّلته، حين ضمت إليه فصولاً كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي."
فالأصالة عند دراز إذن تبدأ بالجمع والاستيعاب، ثم تعبر إلى التصحيح والتصويب، وتصل إلى الإبداع والجدة ونهاية خط التقدم. ويبدو أن هذا الفهم عند "دراز" قد تطور نتيجة الدراسة التي انتهت إلى هذا الكتاب، ولم تكن واضحة لديه عند البدء بالدراسة. ولعل عرضاً لموضوع الكتاب ومنهجه يوضح ذلك.
"دستور الأخلاق في القرآن" هو "دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن الكريم." وهو في الأصل أطروحة دكتوراه من جامعة السوربون، قدمها الشيخ دراز بالفرنسية، وناقشها في الخامس عشر من ديسمبر عام 1947م، ونشرها الأزهر بلغتها الأصلية عام 1950م، ثم ترجمها وحققها الدكتور عبد الصبور شاهين، ونشرت طبعتها الأولى بالعربية عام 1973م.
ومع أن المؤلف قد التحق بجامعة السوربون بعد حصوله على الإجازة من الأزهر، فإنه في دراسته في فرنسا فضّل أن يبدأ الدراسة من بدايتها، فدرس العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية في مستوى "الليسانس"، ثم واصل دراسته حتى الدكتوراه، ولذلك فإن أطروحته ليست دراسة في القرآن فحسب، وإنما هي دراسة مقارنة مع النظريات الغربية ذات العلاقة بالموضوعات التي يأتي عليها، وهي مقارنة تكشف عن عمق استيعابه، وتمكنه في العلوم الغربية وعلوم القرآن على حد سواء.
¥