السلوك الثالث: يتمثل في اعتقادهم، - وتناقض ذلك مع رغباتهم - وذلك في قوله تعالى:) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (.
وفي هذه الآية بيان لثلاثة أمور أساسية:
إحداها: اعتقادهم بأن الملائكة بنات، إذ الجعل هنا أعم من كونه بالقول ([4])، فهو اعتقاد وقول، قال تعالى:) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ([الزخرف:19].
والثاني: باعتقادهم نسبتها لله تعالى؛ حيث أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات ([5]) الجن، كما دل عليه قوله تعالى) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ([الصافات:158]، وكان هذا اعتقادَ كنانة وخزاعة من العرب ([6]).
الثالث: رغبتهم في ذريتهم أن تكون ذكوراً فقط؛ لأن ذلك محل شرف ورفعة وقوة لهم، مع اعتقادهم نسبة البنات لله تعالى.
و تناقض تفكيرهم مع سلوكهم واعتقادهم، دليل واضح على قصورهم العقلي واضطرابهم الفكري.
فنزه الله تعالى ذاته العظيمة بقوله:) سبحانه (عما ينسبه المشركون من جعلهم لله تعالى البنوة أساساً ([7]).
ثم ذكر الله تعالى أن الواحد منهم لا يرضى لنفسه بالبنت، فكيف يرضهن لله تعالى، فقال عز وجل فاضحاً لهم:) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (، عن ابن عباس قال: (يجعلون لَهُ البنات، يرضونهن لَهُ ولا يرضونهن لأنفسهم، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إِذَا ولد للرجل منهم جارية أمسكها عَلَى هون، أو دسها في التراب وهي حية) ([8]).
فالآية تخبر أن هؤلاء الذين نسبوا البنت لله سبحانه على سبيل البنوة، وهم يعتقدون بوجوده رباً، ترى أحدهم إذا أعلم بولادة الأنثى له؛ صار وجهه كل يومه كئيباً قد غمَّ، وحاله: أنه يخفي الغيظ الذي ملأ كيانه وقلبه، وانتشر في أعضائه؛ يؤثر الانكفاء عن الناس والابتعاد عنهم لاعتقاده بسوء العار الذي لبسه، ولذلك فهو يحتار فيما يفعل، ويضطرب في حكمه، وتراه حائراً ثائراً يضرب الكف على الكف ويترنح متردداً في شأنه، ويحدث نفسه يقول: أَأُبقي هذه البنت حية حبيسة عندي، وأقيم على الذل والهوان الذي أصابني وتتحدث عني العرب؛ أم أدفنها في التراب، لأخفي هذا العار، وبذلك يبقى رأسي مرفوعاً عزيزاً.
) ألا ساء ما يحكمون (وما ذلك إلا لأنهم بلغوا من كراهة البنت أعظم الغايات؛ هم أنفسهم يجعلون ما هذا شأنه من الهون والحقارة لله سبحانه وتعالى وهو المتعالي عن الصاحبة والولد) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ([الصافات: 151 - 154].
هذه الآيات توجب على المختصين في علم النفس أن يجعلوا الجانب العقدي في صميم دراسة الشخصية الإنسانية والصحة النفسية، وأن يركزوا على أثر الاعتقادات الفاسدة في سلوك صاحبها وصحته النفسية والعقلية.
فالناظر في الأنماط السلوكية التي ذكرها القرآن لمختلف فئات الناس؛ يجد أن القرآن يركز على الدور العقدي لدوافع السلوك، وبلورة هذه العقيدة لأعراف الناس وتقويمهم، وتقرير الأسلوب الأمثل لحياتهم، كما ويصور القرآن الحالة النفسية الداخلية لمكونات الشخصية بناء على اعتقاد صاحب هذه الشخصية.
فالآيات هنا تنكر نمطاً سلوكياً واجتماعياً كان موجوداً في عادات بعض العرب في الجاهلية، وبقي إلى أول زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فتُصوِّر الانفعالات النفسية لهم، وأثرها على سويتهم الشخصية والسلوكية، في سياق عقدي وقالب بياني ذي دلائل نفسية، وهو ما يتعارف عليه في علم النفس بالموقف النفسي (([9])).
"فالانحراف في العقيدة – كما تبينه الآيات - لا تقف آثاره عند حدود العقيدة، بل يسري في أوضاع الحياة الاجتماعية ويدخل ضمن تقاليدها، لأن العقيدة هي المحرك الأول للحياة، سواء ظهرت أو كمنت ... ومن هنا فإن انحراف الجاهليين عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة" ([10]).
¥