تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ش: لاَ شَكَّ أَنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالإِجْمَاعَ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِ الكَلاَمِ لِمَوْلاَنَا ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَتَبْشِيرٍ وَتَحْذِيرٍ وَإِخْبَارٍ.

وَدَلِيلُ العَقْلِ أَيْضًا يَدُلُّ بِالطَرِيقِ القَطْعِيِّ أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ بِأَمْرٍ يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَمَوْلاَنَا ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ عَالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُومَاتِ الَّتِي لاَ نِهَايَةَ لَهَا، فَصَحَّ أَنَّ لَهُ كَلَامًا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَكُلُّ مَا صَحَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ ـ جَلَّ وَعَلاَ ـ وَجَبَ لَهُ؛ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِصِفَةٍ جَائِزَةٍ، فَالكَلاَمُ إِذًا وَاجِبٌ لَهُ تَعَالَى.

ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ بَعْدَ هَذَا عَلَى فِرَقٍ؛ فَذَهَبَ الحَشْوِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الكَلاَمَ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ مَوْلاَنَا ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ثَبَتَ فِي الكَلاَمِ اللِّسَانِيِّ فِي الشَّاهِدِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا قَدِيمٌ، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ المِدَادَ حَادِثٌ فَإِذَا كُتِبَ بِهِ القُرْآنُ صَارَ بِعَيْنِهِ قَدِيمًا. وَهَذَا المَذْهَبُ وَاضِحُ الفَسَادِ؛ إِذْ مِنَ المَعْلُومِ أَنَّ الحُرُوفَ وَالأَصْوَاتَ لاَ تُعْقَلُ إِلاَّ حَادِثَةً؛ لِتَجَدُّدِهَا بَعْدَ عَدَمٍ وَعَدَمِهَا بَعْدَ تَجَدُّدٍ، فَالعَدَمُ يَكْتَنِفُهَا سَابِقًا وَلاَحِقًا، وَالقَدِيمُ لاَ يَقْبَلُ العَدَمَ، لاَ سَابِقًا وَلاَ لاَحِقًا.

وَذَهَبَ المُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ كَمَا قَالَتِ الحَشْوِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ كَلاَمَهُ تَعَالَى فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، كَرَزْقِهِ وَإِعْطَائِهِ، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الحَوَادِثِ بِهِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الكَلاَمِ خَلَقَ ذَلِكَ فِي جِرْمٍ مِنَ الأَجْرَامِ، وَأَسْمَعَ ذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.

وَهَذَا المَذْهَبُ أَيْضًا وَاضِحُ الفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اِمْتِنَاعَ مَا عُلِمَتْ صِحَّتُهُ مِنَ الكَلاَمِ فِي حَقِّ العَالِمِ، وَأَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الذَّاتِ العَلِيَّةِ أَمْرٌ وَلاَ نَهْيٌ وَلَا وَعْدٌ وَلَا وَعِيدٌ، وَإِنَّمَا هِي مَوْجُودَةٌ فِي الأَجْرَامِ الحَادِثَةِ، فَالمُكَلَّفُونَ إِذًا عَابِدُونَ لِتِلْكَ الأَجْرَامِ؛ إِذْ هِيَ الآمِرَةُ النَّاهِيَةُ.

فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ مَا خَلَقَ الله فِيهَا دَالٌّ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ، فَهِيَ كَالمُبَلِّغَةِ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

فَالجَوَابُ: أَنَّ الذَّاتَ العَلِيَّةَ عِنْدَهُمْ عَارِيَةٌ عَنِ الكَلاَمِ أَصْلًا، فَلاَ أَمْرَ فِيهَا وَلاَ نَهْيَ وَلاَ خَبَرَ وَلاَ وَعْدَ وَلاَ وَعِيدَ، وَمِنْ شَرْطِ تَبْلِيغِ هَذِهِ الحَقَائِقِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا المُبَلَّغُ عَنْهُ أَوَّلاً ثُمَّ تُبَلَّغُ عَنْهُ.

وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الحَقَائِقَ إِنَّمَا وُجِدَتْ اِبْتِدَاءً فِي تِلْكَ الأَجْرَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وُجُودٌ أَصْلاً فِي ذَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَلَيْسَ إِذًا عِنْدَهُ حُكْمٌ وَلاَ خَبَرٌ يُبَلَّغَانِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالنَّاسُ إِذًا عَابِدُونَ لِتِلْكَ الأَجْرَامِ الَّتِي سُمِعَ مِنْهَا الأَمْرُ وَالنَّهْيُ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير